(4/5)
بعينينِ أرهقتهما كثرةُ الدموعِ وطولُ السهر، وقفتْ تبحثُ عنه.
ثمَّ توقفتْ عيناها عندَ وجهِه وهو يقترب.
الآنَ تدركُ جيّدًا لم بدا لها مألوفًا.. إنَّ ملامحَها العزيزةَ ذائبةٌ في ملامحِه.
غرقـتْ عيناها في دمعتينِ تترقـرقانِ في عينيه، فعادتْ دموعُها لتسيل، حتى عجبتْ من أينَ تنبعُ، وقد ذرَفتْ منها بالأمس أنهارا!
توقف (شريف) أمامَها، وهمـهمَ بتحيّةٍ لم تُميّـزْها، قبـلَ أن يمـدَّ إليها يدَه بمظروفٍ مغلقٍ، يبدو مكتظًّا.
أخذتْه منه في صمت.
ثمَّ فجأةً انخرطتْ في البكاء، فجذبَها من يدِها برفقٍ، ليجلسا على مقعدٍ حجـريٍّ قريب.
لبِثتْ تبكي بُرهةً، قبلَ أن تكفكفَ دمعَها، وتتمتم:
- لقد راجعتُ خطاباتِها بالأمس.. كنـتُ حريصةً على أن أحمـلَ معي نسخةً منها، حتى نسترجعَ أجملَ ذكرياتِنا.
لم يَجِدْ ما يقولُه، فتابعت:
- لقد عرَفتُ الخطابَ الذي بدأتَ فيه تكتبُ باسمِها.
ورمقته فوجدته شاخصًا، وعيناه نافذتا حزنٍ ينزف.
صمتت، فلم ينبس بكلمة.. سألته:
- هل ستظلُّ صامتًا هكذا؟
قال بخفوت:
- بجوارِ أنّه لا كلماتِ لديَّ، أخافُ أن أقولَ شيئًا يُضايقُكِ فتنصرفي.
- لماذا؟
- بسببِ غضبِكِ بالأمسِ للخطاباتِ الـ....
- بل لماذا لا تريدُني أن أنصرف؟
- [متنهّدًا]: لأنَّ روحَها تغشاني في وجودِك.. لكم كنتِ عزيزةً عليها!.. لم يكنْ لها من حديثٍ غيرُك.
- أنا أيضًا أحسُّ بروحِها فيك.. إنَّ بينَكما تشابهًا كبيرا.
نظرَ في عينيها لحظةً في صمت.
في هذه اللحظةِ وجدتْ نفسَها تهوي مع شلالاتِ الحزنِ إلى أغوارِه السحيقة.
سألته:
- لماذا فعلتَ هذا؟
- تعنينَ الخطابات؟
- نعم.
- [تنهدَ تنهيدةً حارة]: لستُ أدري.. كانتِ الصدمةُ هائلة.. لسنواتٍ كنتُ أتوقّعُ أن أفقدَها في أيّةِ لحظة.. ربما أظهرتُ التجلدَ أمامَها حتّى أمنحَها أملا كنتُ أنا في أمسِّ الحاجةِ إليه.. ربما أقنعَتْ هي آلامَها أن تنزوىَ تحتَ قناعِ بسمتِها الشفافة.. ربما ضحكـنا معًا وقلبانا يُضرعُهما البكاء.. ولكنَّ هذا قَطّ لم يُقلّلْ من فداحةِ المفاجأة.. [وسالت دموعُه] هل تعرفين؟.. المرّةُ الوحيدةُ التي رأيتُ فيها بسمةً صافيةً مطمئنّةً تُلقي أنوارَها على ملامحِـها، كانتْ في لحظةِ الفِـراق.. فجـأةً بدا أنَّ أعباءَ السنينَ قد تفتّتتَ، وذرتها نسماتٌ مسّتْ روحَها وهي تُجـيبُ بارئَها.. لياليَ طـوالا لم تفـارقْ هذه الصورةُ مُخيّلتي، وأنا معتكفٌ وحدي، تنداحُ حجرتُها في داخلي بلادًا من الذكرياتِ التي حلوُها شجنٌ ومرُّها ألم.. أبكي أو أجمدُ أو أتبعُ أطيافَها، تتقمّصُ رُوحَها وتتحرّكُ من حولي، تنسِلُ من ذهني تسكبُ الدمعَ في عيني، وترتدُّ إلى قلبي تَسكنُ فيه، وتُسكنُ الأشجانَ إلى الأبد.
وصمتَ ريثَ أن تحورَ غصّةٌ مرّرتْ حلقَه، وأردفَ:
- طيفًا وراءَ طيفٍ، كانتْ روحُها تغشاني.. آلافٌ من الأفكـارِ والمشاعـرِ والذكرياتِ راحتْ ترقى بي إليها، حتّى أحسستُها أنا وأحسستُني هي.. لم يكُنْ أنا الذي يكتب.. كانَ كلُّ شيءٍ حيٍّ منها بداخلي هو الذي يكتب.. هي التي حرّكتْ يدي.. هي التي بثّـتكِ كلماتِها.. هي التي أمرتني أن أرسـلَ خطاباتِها إليك.. كانت هي.. هل تصدقينَ هذا؟
ونظرَ لها بعينينِ مفعمتينِ بالرجاءِ والدمع، فتمتمتْ من بينِ دموعِها:
- أصدّقُه.
- للهِ كيفَ هانتْ آلامي ووحشتي!.. حينَئذٍ كانت تكتبُ لكِ كلَّ يوم.. حينَئذٍ لم تعُدْ تتركُني لوحدتي في جوفِ الليلِ اللزجِ المقيت.. حينئذٍ كنتُ أحيا لتحيا بي.. وحينما كنتِ ترسلينَ خطاباتِك، كانت روحُها تضوعُ بينَ ضلوعي، وتَشيعُ في جسدِ الذكرياتِ السجينِ حركةً نابضة، وتتراقصُ على الجدرانِ الخامدةِ أطيافًا من الأحـلامِ، رغمَ انطفاءِ الشمـوع.. [ودفنَ وجهَه بينَ كفيه] سامحيني.. لطالما وددتُ أن أصارحَـك، ولكنّي خِفتُ على روحِـها التي أحيا بها، يبدّدُها التياثُ عقلي في وحشةِ الصمتِ وكآبةِ الوَحْدة.
أحسّتْ بأنّها على وشكِ الاختناقِ من فرطِ الحزن، وتفجّرتْ في عينيها دموعٌ، حاولتْ باستماتةٍ أن تكبتَها.
لم تدرِ لماذا.. فقط أحسّتْ أنَّ (عزةَ) لو كانتْ مكانَها ما كانتْ لتستسلمَ للدموع.
ثمَّ إنها سألتْه، وكانت أكثرَ تماسكًا:
- هل.. هل حزنتَ لخبرِ قدومي؟
رفعَ وجهَه ينظرُ لها بعينينِ مندهشتين، فاستطردتْ موضّحةً:
- يعني.. كنتُ سأكتشفُ كلَّ شيءٍ لا محالة.
قالَ وشبحُ بسمةٍ يتراءى في غيومِ شجونِه:
- لم يَرِدْ هذا إلى ذهني.. كلُّ ما راودني هو أنَّ شيئًا حلُمَتْ به كثيرًا قد آنَ له أن يتحقّق.. حتّمًا سعِدَتْ.. وحتمًا مسّتْني سعادتُها.. هل تعلمينَ؟.. إنّني أقرأُ لها كلَّ خطاباتِك.. ودومًا كانت نسمةٌ معبّقةٌ بالشذى، تُداعبَ خطابَكِ كلّما وردَ به ما يُسعدُها بك.. ودومًا كانَ عصفورٌ وحيدٌ يشدو بشجنٍ كلّما وردَ به ما يقلقُها لك.. [وضحك فجأةً رغمَ دموعِه].. أتعرفين: كلُّ من رآني أقرأُ خطاباتِكِ على قبرِها ظنّني مجنونًا!
- [بدهشة]: هل كنتَ تحملُ خطاباتي لتقرأها لها؟
أومأَ برأسِه في صمتٍ، فقالتْ بتأثّر:
- سامحني لغضـبي منكَ بالأمس.. ولكنَّكَ تعـرفُ هولَ الفاجعةِ تحتَ وطأةِ المفاجأة.. آسفة.. إنَّ ما فعلتَه حقًّا لهو شيءٌ نبيل.
سألها (شريف):
- هل تودّينَ رؤيتَها؟
- [بلهفة]: يا ليت.
- [ناهضًا]: إذن هيّا بنا.. لكم تتوقُ إلى رؤيتِكِ هي أيضا.
وذهبا.
***
لولا خشيةٌ دينيّة، أن تقـعَ في شركٍ أو وثنيّة، لاحتضنتْ قبـرَها حتى تَرهَكَ جدرانَه أو يرهكَ ضلوعَها.