المتابعون للمدونة

الأربعاء، 11 نوفمبر 2015

عمو 6


(7)

أحبّك 

سألها (ماهر) بلهفة:
-      ما زلت تذكرين صوتي؟
لم تستطع (هالة) إخفاء نبرات السعادة في صوتها وهي تجيبه:
-      هو مختلف قليلا عبر الهاتف.. لكني لا أعرف سوى غريب واحد.
-      يا له من محظوظ!
-      ولكن.. كيف عرفت هذا الرقم؟
-      أهداه القدر لي.
-      (بفضول جمّ) كيف؟

-  حينما نسيتِ هاتفك في القطار، التقطتُه، وهممت بالنزول خلفك، لكن فكرة التمعت في ذهني بغتة فطفقت أنفذها.. اتصلتُ برقمي من هاتفك، وحينما رن جرس هاتفي، حفظت الرقم الذي ظهر على شاشته في ذاكرته.. كان القدر بي رحيما أن وجدت رصيدا في هاتفك، فلست ممن يعرفون تلك الحيل التي يجعلون بها الهاتف يعرض رقمه الخاص!

اتسعت عيناها بدهشة، وصمتت لحظة عاجزة عن النطق، قبل أن تقول بعتاب تمثيليّ لم يُخفْ سعادتها:

-      سرقت رقمي خلسة يا عمو؟!

-      (ضاحكا) كان أثمن من قدرتي على المقاومة!

-      (بغضب مفتعل) أنا المخطئة إذن أنني لم أستخدم رقما سريا لتأمين قفل الشاشة!

-   (متنهدا بارتياح) أحمد الله على خطئك هذا، فلولاه لكنت فقدت كل وسيلة للاتصال بك.

تسلل الدلال إلى صوتها وهي تسأله بتهيب:

-      ولماذا فعلت هذا؟

-  (بتنهيدة حارة) لأني لم أتخيل أن تضيعي مني للمرة الثانية، دون أن أعرف عنك أي شيء يوصلني إليك.

خشعت أنفاسها وتوردت وجنتاها وهي تهمس:

-      ولماذا تريد الوصول إليّ؟

-      أتذكرين حينما حدّثتك عن أهم شيء ينقصني؟

-      نعم.

-      تذكرين ما هو؟

-      شخص يفهمك.

-      وقلتُ لكِ إنني وجدتُه مرةً وضاع مني.

-      نعم

-      (بحرارة) لم أكن لأسمح بضياعه مجددا بعد أن وجدته.

-      (بتلعثم) ماذا تعني؟

-      (برقة) أعني أنك هذا الشخص يا هالة.

-      (بخفوت) شخص يفهمك؟

-      (بفتون) شخص ينقصني.

كان قلبها يدق بعنف وهي تحاول تهدئته بلا جدوى، خوفا من أن يسمعه ماهر عبر الطرف الآخر من الهاتف!

كانت سعيدة ومرتبكة.. منتشية وخائفة.. مذهولة وغير مصدقة.

ولكنها تذكرت فجأة خطيبته، فتجهمت وقالت بغيرة:

-      لديك خطيبتك.. أنتَ لا ينقصك شيء.

-      ليس لديّ غيرك.

-      هل تعني....؟!

-      نعم.. لقد انفصلنا.. لم أكن يوما لها.

-      (بإشفاق) وما ذنب هذه المسكينة؟.. لا ريب أنها تعشقك؟

-      (بمكر) وما الذي يجعلك واثقة هكذا؟

أجابته دون أن تنتبه:

-      من الصعب ألا تعشقك أي فتاة تعرفك.

ثم انتبهت إلى المصيدة التي أوقعها فيها، فالتهب خداها خجلا وقالت بتلعثم:

-      أعني أنها.. لا ريب أن...

قاطعتها ضحكته المجلجلة، فقلت بغيظ:

-      علام تضحك يا عمو؟

كتم ضحكاته بصعوبة وهو يجيب:

-  لا شيء.. فقط تذكرت فتاة سابقةً لسنها، وتخيلت كيف ستكون ساذجة جدا لو حاولت اللف والدوران وإخفاء ما هو واضح الشمس.

ازداد ارتباكها وخجلها، فقالت بعناد:

-      ما زلت لا أدري ما ذنبها.

-      لا ذنب لها، إلا أن قلبي ليس ملكها.

-      (بغضب) هل جرح من يحبونك سهل هكذا لديك دائما؟

-      (تنهد بألم) لم يكن سهلا، لكنها اختارت.

-      كيف؟

-  لاحظَتْ حزني وشرودي ونظري للهاتف كثيرا بتردد، فظلت تحاصرني حتّى اعترفت لها بكل شيء.

-      (بلهفة) وبم اعترفت لها؟

-  (بفتون) قلت لها إنني عشقتُ طفلة عبقرية، ظللت أبحث عنها في القطارات كل يوم لمدة سبع سنوات.

خفق قلبها بنشوة وغمره دفء لذيذ، وصمتت طويلا، فواصل هو:

-  لم يكن وقع كلماتي سهلا عليها، لكنها قالت إنها فهمت أخيرا سر ولعي بركوب القطار، وسر فتور علاقتنا.. وقالت إنها على استعداد لأن تحترم مشاعري تجاه تلك الذكرى.

-      (بلهفة) وبم أجبتها؟

-      أجبتها بأنكِ لم تعودي ذكرى، وأنكِ ظهرتِ في حياتي من جديد.

صمتت هالة وهي غارقة في مشاعرها المتضاربة، قبل أن تسأل بإشفاق:

-      وماذا قالت عندئذ؟

-      قالت إن حزن شخص واحد أسهل من حزن ثلاثة.

سالت دمعة من عين هالة وغمغمت:

-      يا لها من محبة نبيلة!

ثم سألته بغتة بانفعال:

-      ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف تخلت عنك هكذا بمثل هذه البساطة؟

-      (بمكر) ماذا ستفعلين لو كنت مكانها؟

-      (باندفاع) كنتُ مَزّ.....

ثم فطنت إلى خدعته للمرة الثانية، فبترت عبارتها وقالت بغيظ:

-      وما شأني أنا بهذا؟

ضحك باستمتاع مجيبا:

-      اسألي نفسك!

قالت بارتباك ممزوج بالدلال وهي تحاول اصطناع اللامبالاة:

-      أنا أتكلم بوجه عام.. هذا (لو) كنتُ مكانها.. مجرد مثال.

-  (برقّة) لا تحاولي الإنكار يا هالة.. أو حتّى حاولي، فلن أسمح بإضاعة المزيد من عمري بعيدا عنك.

شملتها سعادة غامرة، فصمتت لحظة وهي تغمض عينيها محاولة استيعاب أن كل هذا يحدث فعلا، وأنه حقيقة واقعة.. حقيقة أحلى من كل أحلامها.

***

وأتاها صوت (ماهر) عبر الهاتف لينتزعها من عالم أحلامها:

-      (هالة).. هل ما زلتِ معي؟

أجابته لتتهرب من خجلها:

-      نعم.. لكني ما زلت لم أفهم لماذا تخلت عنك خطيبتك بهذه البساطة؟

-      لم تكن هناك أي بساطة.. من أين جئتِ بهذا المصطلح؟

-      مما حكيتَه.

-      أنا لم أَحْـكِ كل شيء.

-      كلي آذان مصغية.

-      (متنهدا) لقد كانت متأكدة من صدق شعوري نحوك.

-      (بفضول) كيف؟

-      (بتردد) لقد رأتني في أضعف حالاتي، وهي لم تعتد الضعف مني.

-      (مبهورة) كنت حزينا من أجلي؟

-  كانت دموعي تتلألأ في عينيّ دون أن أدري، وأنا أحدثها عنكِ بمشاعر حارة!.. لقد احتفظتُ بحبي المجنون لنفسي طويلا.. لم أَبُحْ به حتّى لأقرب المقربين.. لم أَهْذِ به في نومي أو حتّى في مرضي.. كنتِ سرّي الذي أحفظه بداخلي ككنز ثمين.. لكن الصندوق انفتح أمام (سلوى) فجأة فأغشى بريق كنزه عينيها.

مست كلماتها شِغاف قلبها، فسالت دموع (هالة)، وتمتمت في ندم هزم خجلها وترددها أخيرا:

-      ليتني كنت بمثل ضعفك!

-      (بلهفة) كيف؟

-  (باندفاع) كل يوم منذ قابلتُكَ أول مرة، كانت نفسي تراودني لأن أستقل القطار علّني أراك.. لكنني كنت أخجل من نفسي أن أكون مجرد مراهقة تبحث عن سراب الحب في الخيالات التي صنعتْها عن أول رجل يدخل عالمها.. وخفت أن أبتذل نفسي وأكسر كبريائي وأصير أضحوكة، فهل يعقل أن يلتفت شاب مثلك إلى فتاة صغيرة قابلها في القطار يوما؟.. لهذا ظللت أقاوم هذه الفكرة لسنوات، حتّى تحول الخجل من لقائك مجددا، إلى يأس من تكرار هذه المصادفة أصلا بعد تقادم اللقاء.

-  أما أنا فكنت أنتظرك في القطار كل يوم طيلة تلك السنوات.. يبدو أنكِ أكثر عقلا وأنني أشد جنونا!

-      (بندم) سامحني.. لو كنت أعلم لما احتجتُ وقتا طويلا لكي آتي إليك.

سألها بلهفة وسعادة:

-      هل تعنين أنك....؟

-      (بخجل) نعم.. لقد ركبت القطار فقط لأبحث عنك.

-      (ضاحكا بنشوة) يا إلهي.. أنت أشد جنونا مما ظننت!

-      أظنني!.. فلسبب ما تخيلتُ أنني سأراك بعد كل تلك السنوات.

-      وقد حدث!

-      قد حدث!

-  لكن ألم تفكري: ماذا لو ركبتُ العربة الخطأ.. ماذا لو لم أعرف ملامحه ولم يعرف ملامحي؟.. ماذا لو لم يكن موجودا من الأساس؟!

-  فكرت.. ثم قررت أن أترك الأمر للقدر لا للعقل تلك المرة.. فلو كان لقاؤنا مكتوبا فلن يمنعه أهل الأرض جميعا.. اسأل أنت نفسك: وماذا لو لم أنْسَ هاتفي المحمول؟.. وماذا لو ضاع منّي بعدها ولم تستطع الاتصال بي الآن؟.. وماذا لو، وماذا لو...؟.. أخبرني ما الذي تضمنه لنفسك غدا في الدنيا لتخطط حياتك خطوة بخطوة؟

-  معك حق.. تحتاج الحياة إلى القليل من المغامرة.. بعد الكثير من الأخذ بالأسباب بالطبع.

-      (مداعبة) وأخذ أرقام الهواتف خُلسة!

ضحكا معا على دعابتها، قبل أن يسألها بشغف:

-      لكن لماذا بعد كل تلك السنوات؟

-      تقصد قراري بركوب القطار؟

-      نعم.

-  (متنهدة) لقد عمل الزمن على هدم كل مبرراتي القديمة.. فها أنا قد نضجت وعلى وشك إنهاء الجامعة، وما زلت لم أقابل شابا مثلك.. لقد تأكدت أنني لم أكن مراهقة حينما انجذبت إلى عقلك، لأنك ظللت متفردا في حياتي طيلة سبع سنوات، حتى خشيت ألا تتكرر بعدها أبدا!

-  (بعاطفة جياشة) حمدا لله.. لم أكن مجنونا كما توهمتُ، وكنتِ أنتِ عند حسن ظني دائما.. كنت أعقل من أن تكوني مراهقة، وأغلى من أن تبتذلي نفسك، وأضعف من أن تضيعي حبّك.. ماذا يمكن أن يتمنى المرء أكثر من هذا في فتاة أحلامه؟

أسبلت رموشها حالمة مع حرارة كلماته التي تداعب أوتار قلبها، وهمست كأنها تحادث نفسها:

-  كم صدقتْ الرسالة.. لقد تلقيت اليوم أكبر مفاجآت حياتي وأجملها على الإطلاق.

سألها بمكر:

-  هل تقصدين رسالة "تنتظركِ اليوم مفاجأة.. هل تحبين المفاجآت أم تتوجسين منها؟"؟

انتبهت فجأة إلى هذه الحقيقة الجلية التي غابت عن ذهنها في خضم ذهول الموقف، فصاحت بدهشة:

-      هل تعني أنك.....؟

ولم تكمل عبارتها بل صاحت في غيظ مرح:

-      أيها المخادع.. ألن تكف عن التلاعب بقلبي؟

أجابها بفتون:

-      لآخر العمر.

وهتف بصوت متهدج:

-      أحبّك يا هالة.. أحبّك بمنتهى العقل والجنون.

وابتسمت (هالة) بنشوة والدموع تترقرق في عينيها وتسيل على خديها الملتهبين!

وبدون وعي منها وجدت نفسها تهمهم بخفوت:

-      أحبك يا ماهر.. يا حبّي الأول والأوحد والأجمل!

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر