المتابعون للمدونة

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

عمو 1


عمّـــو

(1)

 

لم تكن (هالة) مجرد مراهقة تخطو خطواتها الأولى في عالم الأنوثة بأعوامها الأربعة عشر، حينما جلست قبالته يوما منذ سبع سنوات في هذا القطار.

كانت أكبر من سنّها بمراحل، تشعر وأنت تخاطبها بذلك النضج المبكر، مع شجن خاص يفوح من عينيها..

شجن لم يحتج وقتا ليتسلل عبر مسام قلبه فيشعره بإشفاق غامض تجاهها.

ولعها لمحت في عينيه هذا التضارب بين الانبهار والإشفاق، فسألته بغتة بشرود:

-      عمو.. لماذا يقول لي الجميع بأن عقلي أكبر من سني؟

ابتسم قائلا:

-  ربما لأنك تتكلمين بثقة وتجيدين فهم مقاصد من يحاورك من أول مرة.. نحن نعجب دائما بمن يفهمنا بسرعة، ويصور لنا غرورنا أنهم في غاية الذكاء لفهمهم ما نطرحه عليهم من فلسفاتنا العميقة!.. مع أن سوء التفاهم في الغالب يكون نابعا عن عجز المتكلم عن إيضاح مقصده، وليس بالضرورة عيبا في المتلقي.

تفكّرت في كلماته بشرود، وهو يتأملها مستشفا وقع كلماته هذه عليها.

كان كل ما مضى من حوارهما قد جعله على يقين أنها تفهمه جيدا.. أو على الأقل هي بارعة في إظهار هذا، وهذا في حد ذاته ذكاء اجتماعي تحسد عليه!

قالت فجأة:

-      كلامك كبير يا عمو.. ماذا تعمل؟

-      لا أعمل بعد.. أنا طالب بالنسة الثالثة في قسم التاريخ بكلية الآداب.

-      لهذا تبدو حكيما.. كلامك يشبه كلام جدي!

-  (ضاحكا) يا إلهي.. هل صرت كبيرا لهذه الدرجة؟.. عموما يا هالة أنا لست حكيما لهذه الدرجة.. لكن قراءة التاريخ تضيف إلى عمر المرء خبرات الآخرين، وقد تخصصتُ في هذا الفرع بسبب حبّي للتاريخ، ولعل هذه هي الميزة الوحيدة في كلية لم يعد لخريجيها أي وظيفة في هذا المجتمع، ولا يدخلها إلا المحكوم عليهم بالتنسيق مع سبق الدرجات والترصد!

وجدها صامتة تتابعه بانتباه فنظر عبر نافذة القطار إلى الحقول المترامية، وواصل كأنه يحدث نفسه:

-  إنني أستمتع بقراءة التاريخ.. يبدو لي كحواديت مثيرة فيها عبر كثيرة.. وأشعر دائما أن التاريخ يعيد نفسه.. الحقيقة أن البشر لا يتعلمون أبدا.. دائما وأبدا يعيدون نفس أخطائهم وأخطاء أسلافهم وأسلاف أسلافهم.. تُحركهم دائما نفس الدوافع: الغرائز والنقائص والمشاعر والأحلام والآمال العريضة.. كثيرا ما أتخيلهم كموج البحر يهدر ويزمجر ويحلم بالوصول إلى الشاطئ في حماس متوحش.. ثم حينما يصل أخيرا تكون الرحلة قد أنهكته، فيتهاوى خائرا متكسرا على رمال الشاطئ ويذوب وينتهي.. أمواج تتلو أمواجا من البشر الذين لا يتعلمون أبدا!

هزت رأسها متفهمة بشجن، فالتفت إليها سألها فجأة:

-      أنتِ مثلا بمَ تحلمين؟

باغتها السؤال فقالت بارتباك:

-      أنا؟

-      نعم.

صمت لحظة ومطت شفتيها قائلة:

-  لا أدري.. أحيانا أشعر أنني مختلفة عن الأخريات.. صاحباتي يتكلمن دائما عن الأزياء والعطور والموضات والذهب والجمال وفارس الأحلام وعش الزوجية _ الذي لم يعد عشا في الحقيقة بل قصرا _ والأثاث والأجهزة الحديثة، ومن أحضرت ماذا ومن لديها ماذا.. لكني لا أجد في تكرار هذا الكلام سوى رتابة تصيبني بالملل.. أشعر أن الحياة أكبر من أن أستهلكها في هذه الدائرة المغلقة.

سألها بمكر:

-      تعنين أن كل هذه الأشياء التي ذكرتِها لا تعنيك؟

-  حتما تعنيني.. ولكن ليس إلى درجة الهوس.. دعني أستخدم أسلوبا من تلك التي يلقنونها لنا في حصة التعبير.. كل هذه الأشياء وسائل لكنها ليست غايات.. أتعرف: هي في نظري ليست أغلى من الهواء الذي لا أستطيع الحياة دونه، ورغم هذا لا أتوقف للتفكير فيه عند كل نفس أتنفسه.

ابتسم وهو يرمقها بإعجاب، فسألته بابتسامة خجلى:

-      هل استطعت أن أوصل إليك مقصدي؟

-      ببلاغة!

-      (تنهدت) خشيت أن تسخر مني كما تسخر مني زميلاتي.

-  لا تخشَيْ.. إنك على صغر سنك أذكى من زميلاتي في الجامعة.. يمكنك أن تقولي إنهن من نفس نوعية صاحباتك، تقدمت بهن أعمارهن وتجمدت بهن عقولهن.. ما زلن يتكلمن بحواسهن القاصرة!

-      يتكلمن بحواسهن!.. يا له من تعبير!

-  نعم.. إنهن أسيرات ما تنقله إليهن حواسهن، فتتشكل طموحاتهن واهتماماتهن حول ما يحقق أكبر متعة لهذه الحواس.. كيف ترى العين الأجمال من الأماكن والأشياء والشباب.. وكيف تسمع الأذن الأعذب من الأصوات والموسيقى وكلمات الحب.. وكيف تنعم جلودهن بالأنعم والأوثر والأفخر من الثياب والأثاث والحليّ.. وكيف تشم أنوفهن الأذكى من العطور، وتتذوق ألسنتهن الألذ من الأطعمة.. وهكذا تتمحور كل أفكارهن واهتماماتهن حول هذه المشاعر والأحاسيس والعواطف والغرائز، فتتقلص عقولهن وتتدنى نفوسهن وتستوحش أرواحهن.

-      ولكن.. ألا ينطبق هذا على الرجال أيضا؟

-  بنسبة كبيرة نعم!.. لكن عواطف النساء وارتباطهن بالمادة أقوى وأكثر حدة.. ربما ينجذب الرجال أكثر للسلطة والقوة، لكن ما يجعلهم يغرقون في عالم المادة أكثر هو ضعفهم أمام النساء ورغبتهم في تلبية احتياجاتهن.. خذي الذهب مثلا: لو لم تكن النساء مفتونات بالذهب طوال التاريخ، هل كان ليكتسب أي قيمة عند الرجال، ليقتلوا بعضهم تنافسا لامتلاكه؟

ابتسمت قائلة:

-  هل نحن شريرات إلى هذا الحد؟.. أتوقع أن تذكر حالا قصة خروج آدم وحواء من الجنة!

ضحك بمرح قائلا:

-  لا أقصد هذا.. فالحقيقة المؤكدة أن الله سبحانه قد خلق هذه الغرائز في الرجال والنساء كطاقة دافعة لاستمرار الحياة وإعمار الأرض.. يقول تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب).. وكمثال تاريخي: لقد أدى هوس النساء بالذهب واقتتال الرجال عليه سعيا لإغراء قلوبهن وسلب عقولهن به، إلى تطوير علم الكيمياء، فقد أفنى آلاف الباحثين بل والنصابين أعمارهم بحثا عن طريقة لتحويل الحديد أو المعادن الأخرى إلى ذهب، أو على الأقل لخداع الناس بأنهم قد فعلوا هذا باستخدام بعض الحيل الكيميائية لطلاء المعادن الرخيصة بقشرة رقيقة من الذهب.. ورغم أن حلم تحويل الحديد إلى ذهب قد باء بالفشل حتى يومنا هذا، فقد قاد البشر بالمصادفة إلى كشوف كيميائية كبيرة، وطور معرفتهم بالتعدين وخصائص المواد.

-      مرحى مرحى.. تفاهة النساء مفيدة إذن!

-      (ضاحكا) وهوس الرجال بالنساء أيضا!

تأملت في كلماته لحظات، قبل أن تسأله باهتمام:

-  وما البديل إذن يا عمو؟.. أعني أن كل ما ذكرته من مدركات الحواس هو بالنسبة لنا الدنيا.. الحياة.. الواقع.. العالم المحيط بنا.. ومن الطبيعي أن ينشغل الإنسان بهذا العالم ويهتم به ويبحث لنفسه فيه عن الراحة والإشباع والمتعة.. فماذا يكون وراء ذلك؟

أدهشة تجاوبها مع أفكاره بهذه السرعة، حتّى إنه بدأ يتشكك في صحة عمرها الذي أخبرته به.. أربعة عشر عاما تبدو صغيرة جدا بالنسبة لقدرتها على استيعاب تأملات كهذه!

بل إن جسدها يبدو ناضجا كأنها أكبر من هذا بعامين.. ولكنه عاد فذكر نفسه بفتيات كثيرات نضجت أجسادهن سريعا، لكنه لم يعرف قط فتاة نضج عقلها بمثل هذه السرعة!

نفض أفكاره وابتلع تساؤلاته وقال:

-  هناك ما هو أبعد وأعمق من عالم الحواس.. تماما كما قلت أنت.. كل هذه أشياء ضرورية كالهواء لا نستغني عنها، لكنها مجرد وسائل لا غايات.. المشكلة حينما تعمينا هذه المتطلبات الحسية للعالم المادي عن عوالم أخرى أوسع وأرحب.. فهانك عالم الروح، حيث ستجدين أولئك الزاهدين الباحثين عن الله، الذين تقود ضمائرهم حواسهم، وهم أكثر الناس اتزانا وتحكما بغرائزهم وعواطفهم، وأكثرهم راحة واستقرارا وسعادة.. وهناك عالم العقل والفكرة، حيث يتربع العلماء والمثقفون والباحثون عن الحقيقة، الذين يفتشون عما تلهيهم عنه حواسهم، ويبحثون عمّا يخفيه عنهم قصورها عن إدراكه أو تفسيره.. هناك أيضا عالم الخيال، حيث يهيم الفنانون والشعراء والمبدعون، وهو عالم رحب بلا حدود، ولا غنى لأحدنا عنه.. وبدون هذه العوالم الثلاثة: الروح والعقل والخيال، كانت حياة الناس المادية ستتحول إلى سجن خانق ممل، لا يجدون فيه هدفا لكفاحهم، ولا اختراعات تخفف عناءهم وتعالج أمراضهم، ولا قصصا وأغانيَ تزيل صدأ الملل عن نفوسهم وتشحذ مشاعرهم.. لكن المحبط أن كثيرا من الناس يستمتعون بكل هذا دون أن يقدّروا آلاف البشر الذين انعزلوا عن حياة المادة ليوفروه لهم، بل ستجدين كثيرا منهم يسخرون من تضييعهم لحياتهم بدون أن يستمتعوا بها!

تألقت عيناها واختفى شجنها لأول مرة وهتفت بحماس:

-  كلامك جميل يا عمو.. نعم.. هناك عوالم أخرى وأناس آخرون، يتطهرّون لهم ولنا، ويفكّرون لهم ولنا، ويحلمون لهم ولنا، فيخففون وطأة عالم المادة عنا!

زاد اندهاشه منها، وتردد لحظة أن يصعد بها إلى مستوى أعلى من التأمل، لكن شجعته سعادتها بمساعدتها لها في استكشاف عالمها الفكري على أن يقول:

-  الأعجب من هذا أن كلّ هذه العوالم تلتقي في النهاية داخل عقولنا.. فنحن نحس وندرك ونفكر ونتأمل ونحلم بعقولنا، حيث كل شيء في النهاية ما هو إلا إشارات كهربية يعالجها المخ، بعضها أصدرته حواسنا كترجمة للعالم المادي، وبعضها الآخر أحسه القلب واستلهمته الروح، وبعضها أنتجه العقل نفسه دون أن يكون له وجود ملموس، بل حتى بلا وعي منّا!

-      هلا أوضحت لي هذه النقطة قليلا.

-  خذي الأحلام مثلا.. هل يوجد أي مصدر مادي لما تسمعينه أو ترينه أو تشمينه أو تتذوقينه أو تلمسينه في الحلم؟

-      لا!

-  هي فقط مجرد إشارات كهربية أصدرها عقلك وأنت نائمة فأوهمك بأنها حقيقة!.. لهذا فإن العقل هو موضع العالم بالنسبة لنا.. بعض العقول تبحث عن عالمها في قطعة من الذهب أو سيارة أو امرأة أو أكلة أو رداء.. والبعض يستسهل خلق عالمه الخيالي بالخمور والمخدرات ليهرب إلى عوالم خرافية ممتعة لكن مهلكة.. والبعض يصنع عالما من الجمال يودعه في لوحة أو معزوفة أو قصيدة أو قصة أو اختراع.. والبعض لا يجد معنى لأي عالم إلا في عبادة خالق كل هذه العوالم، بديع السماوات والأرض سبحانه وتعالى.

شردت مع كلماته وهي تنظر عبر نافذة القطار للحقول المترامية، وعلى شفتيها بسمة حالمة جميلة.

ومضت عدة دقائق لم يشأ أن يقطع فيها حبل أفكارها، حتى التفتت إليه قائلة بامتنان:

-      شكرا لك يا عمو.

-      علامَهْ؟

-      لقد أرشدتْني كلماتك إلى إجابة أسئلة كثيرة طالما أقلقتني وأرّقتني وأرهقتني.

-      (مبتسما) بل الشكر لك يا هالة.

-      علامه؟

-      لقد أعدت إليّ الثقة بعقول النساء!

***

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر