المتابعون للمدونة

الأحد، 8 يونيو 2014

المبرمجان

المبرمجان
(قصة) 
 

تسارعتْ أصابعُهما على لوحةِ الأزرارِ في سباقٍ محموم، بينما يَختلسُ أحدُهما بينَ فَيْنةٍ وأخرى، نظرةً عاجلةً لشاشةِ الآخرِ ووجهِه، قبلَ أن يعودَ إلى الانهماكِ فيما هو فيه.
كانَ الإصرارُ يبدو على ملامحِه.. وكانَ العنادُ هو عينَ ملامحِها.
***
له نصفُ عامٍ ولا همَّ له سوى إثارةِ حنقِها!
لا تدري لماذا قَبِلتْ تعيينَه في القسمِ الذي ترأسُه في شركةِ البرمجة، مع أنَّ هاتفًا مُحذّرًا حادثَها أنَّ شخصًا بمثلِ تلكَ النظرةِ المتوقّدةِ، خطرٌ داهمٌ من نوعٍ ما.
إنّه يتفجّرُ بالحيويّة، ويمنحُه ذكاؤه ثقةً تَزيدُه لباقةً وإقناعا.
وهو عنيدٌ: لا يَسْلِسُ قِيادُه، إلا إذا وافقَ كلُّ أمرٍ هوى منطقِه!
مشكلةٌ هو!.. لا.. بل تلٌّ كاملٌ من المشاكلِ انهارَ على رأسِها من حيثُ لا تحتسب!
أخذُ يُناقشُها في كلِّ كبيرةٍ وصغيرة، ويتدخّلُ في صميمِ عملِها، ويتطوّعُ دونَ دعوةٍ منها ليُزجيَ لها النصحَ والمشورة.
ضاقتْ به ذَرْعًا.. اختنقت!
وأكثرُ ما أثارَ حفيظتَها، هو أنّه لم يُجافِ الصوابَ في أيٍّ مما قال.
آراؤه ثاقبةً، لا تملِكُ معها سوى أن تعملَ بها.. مُكرَهةً!
وبهذا، أنجزتْ إدارتُها في وجودِه، كثيرًا من العملِ قبلَ جداولِه المحدّدة!
لهذا كانَ من الطبيعيِّ أن تعلوَ أسهمُه لدى مديرِ الشركةِ، فتزدادَ صلاحيّاتُه، ويقتربَ خطرُه الداهمُ من موقِعها حثيثا!
***
لم تأتِ مكانتُها في هذه الشركةِ من فراغ.
لقد بدأتْ معها من الصفر: مُذْ كانَ عددُ موظفيها لا يتجاوزُ الأشخاصَ الأربعة.. مجرّدَ مكتبٍ صغيرٍ يحبو، يحاولُ أن يَشرئبَّ بعُنقِه وسْطَ عماليقِ السوق!
كانت تعملُ بحماسٍ لا مثيلَ له، فلا تغادرُ العملَ إلا منهكةً، لا لتُريحَ جسدَها المكدودَ ـ حاشاها، ولكن لكي تُكملَ عملَها على حاسبِها الشخصيّ، فلا تكادُ تحصلُ على نَزْرٍ من الراحة!
***
تألّقتْ ما في ذلكَ شكّ.
لقّبَها زملاؤها ومديرُها بالأسطورة.. ليسَ فقط لجمالِها الأخّاذ، ولا لأنّها تعملُ بطاقةٍ تفوقُ الاحتمالَ البشريّ، ولكنْ أيضًا لأنّها حادّةُ الذكاء، تستعملُ خيالَها مع ما جُبلَِتْ عليه من حبٍّ للاطّلاعِ العلميِّ المنظّم، لابتكارِ حلولٍ برمجيّةٍ متفرّدة.
وصعدَتِ الشركةُ بسرعةِ الصاروخ.. وصعدتْ هي بسرعةِ البرق.
في أربعةِ أعوامٍ فحسب، تضخم رأسُ مالِ الشركةِ، وصارَ يعملُ لديها أكثرُ من عشرينَ مبرمجًا محترفًا، وصارتْ هي رئيسةً لقسمٍ بأكملِه من قسميِ الشركة، ولم تتجاوزِ السادسةَ والعشرينَ من عمرِها!
كانَ كلُّ شيءٍ على ما يُرامُ وأفضلَ ممّا يرام!
حتّى ظهرَ هو!
***
بدا لها كأنّه يكسِفُ شمسَها.
حتّى لقد بدأَ يُقاسمُها أسطورتَها: لقّبوه بنفسِ لقبِها ـ ويحَهم!
انبهارُهم بها فَتَر، وتألّقتْ له عيونُهم به.
انفرادُها بالقرارِ تراجع، وأخذَ يُزاحمُها فيه.
سانده مديرُ الشركةِ، ووجدَ سبيلَه إلى اجتماعاتِِِِ مجلسِ الإدارة.
كانَ يلتهمُ مكانتَها بسرعةٍ مخيفة!
***
وآهِ ما أكثرَ ما أحنقَها غرورُه!
إنّه واثقٌ هادئٌ مبتسمٌ، لا يَروعُه شيءٌ كأنّما يملِكُ لكلِّ شيءٍ حلا!
وسيمٌ متأنّقٌ كأنّه يظنُّ أنّه مقطّعٌ قلوبَ العذاري!
وهو من بينِِِِِ كلِّ من عَرَفوها، الوحيدُ الذي لم يمدحْ ذكاءَها بكلمة.
حتّى حينما تسبقُه إلى فكرةٍ فتعرضُها عليه لتُثبتَ له تميّزَها، تجدُه يكتفي بكلمةٍ وحيدةٍ تُحنقُها، ينطقُها من طرَفِ أنفِه: "جيد"!
من يظنُّ نفسَه؟.. هل يظنُّ أنّه أذكى منها؟
لماذا لم يَقُلْ كلمةً واحدةً يمتدحُها بها؟
أيراها أقلَّ من فتياتِ الشركةِ، يُضاحكُهنُّ ويمتدحُهنَّ بما فيهنَّ وبما ليسَ فيهنّ؟
لا.. بل مدحها مرّة:
كانت تصطنعُ العبوسَ وهي تطلبُ منه أحدَ الملفّاتِ إذ فوجئتْ به يقول:
-      لو كانتْ أساريرُكِ في سماحةِ نفسِكِ لازددْتِ جمالا على جمال.
باغتَها ذلك، حتّى لكأنّما هربَتِ الدماءُ من عروقِِها، قبلَ أن تسألَه في تَحِدٍّ اصطنعتْه ليُواريَ ارتباكَها:
-      أطّلعتَ على دخيلةِ نفسي؟
-      بل يبدو العبوسُ متصنّعًا على وجهِك.
-      وما يُدريك؟
-      ليسَ هذا العبوسُ ممّا يُناسبُ هذا الجمال.
تسربتْ بسمةٌ لملامحِها، لمحَها قبلَ أن تنجحَ في كظمِها، فابتسم.
أحنقَها ذلك، فعقدتْ حاجبيها متسائلةً:
-      مدحٌ هذا أم ذمّ؟
-      مدحُ ذمٍّ أو ذمُّ مدح!
-      تخبرُني أنّكَ مشوّشُ الرؤية؟
-      أخبرُكِ أنّكِ متناقضةُ الذات.
-      بل أنا أُظهرُ عينَ ما أُبطن.
-      تُظهرينَ كُرهي!
-      [باندفاع محتدّ] إذن فقد علِمتَ ما بداخلي!
رفعتْ طرْفَها لترى وقعَ عبارتِها عليه.
كانَ شيءٌ من العتابِ يبدو عليه، مع شيءٍ من الإشفاقِ لم تَدْرِ له سببًا!
توقّعتْ أن يُجادلَها.. أن يسألَها لِمَ تكرهُه.. أن يتحدّاها بقولٍ من أقوالِه التي تُحنقُها..
ولكنّه اكتفى بالصمت، وهو يمدُّ لها يدَه بوسيط التخزين الذي يحوي الملف، معلنًا أنَّ الحوارَ قد انتهى.
ساءها ذلك، فتركتْ يدَه ممدودةً، وسألته مُقطّبةً جبينَها:
-      تطردُني؟
-      لا.
-      بدا لي هذا.
-      هذا لأنّكِ تكرهينني!
-      [هربت منه ببصرِها]: لم أقلْ ذلك.
-      قلتِه.
-      لم أكنْ أعنيه.
-      إذن فأنتِ لا تكرهينني؟
تردّدت، فعاد يسألُها:
-      تكرهينني أم لا؟
كانَ يحاصرُها بنظراتِه الثاقبة، فيَزيدُها ارتباكًا على ارتباك.
وحتّى تتخلّصَ من ارتباكِها، انتزعَتِ وسيط التخزين من يدِه بحدّة، واستدارتْ على عقبيها مغادرةً الحجرةَ بخطواتٍ ملتاثة، وبدونِ كلمةٍ واحدة!
***
لَشدَّ ما أحنقَها بعد أن خلتْ إلى نفسِها أنّها بدت متردّدةً متخاذلةً أمامَه.

كان من المفروضِ أن تستغلَّ زلّتَه الوحيدةَ التي سنحتْ لها إذ أطرى جمالَها فأضاعَ وقتَ العمل، بدلا من أن تسمحَ له بالتمادي وانتقادِ ذاتِها وإرباكِها.
آهٍ لو تكرّرَ مثلُ هذا الموقف!
***
لكنّه لم يتكرّر.
عادَ ليعاملَها على نفسِ طريقتِه السابقة، متناسيًا ما دارَ بينَهما ذلك اليوم.
وعادَ ليواصلَ طغيانَه على موقِعها، ممّا زادها عليه نِقمة.
***
ثمَّ أرجفَ مُرجفٌ في الشركةِ أنّها تُحبُّه!
استبدَّ بها السخطُ عليه، أن يجعلَها مثارًا للشائعات.
ثمَّ لم تلبثْ أنِ استبدَّ بها السخطُ على نفسِها، أن ضبطتْها مُخالسةً تُفكّرُ فيه!
***
اقتحمتْ مكتبَه، قائلةً في حدّة:
-      يُشيعونَ أنّي أحبُّك!
توقّعتْ أيَّ ردِّ فعلٍ، إلا أن يقولَ بلا اكتراثٍ، ودونَ أن يرفعَ عينيه عن شاشةِ جهازِه:
-      وقلتِ إنّكِ تكرهينني.
-      [بغضب]: إنهم لا يفهمونَ ذلك.
-      إذن فهذا حقيقيّ؟
-      [باستنكار]: أنّي أحبُّك؟
-      [رفعَ بصرَه إليها]: أنّكِ تكرهينني.
نظرت إليه لحظةً قبلَ أن تقولَ بسخط:
-      فيمَ نحنَ الآن؟
-      ما زلنا لم نجاوزْ.. أليسَ القصدُ أن نُحدّدَ الآنَ: تكرهينني أم تُحبينَني؟
-      بلي، أكرهُك.
عادَ ببصرِه لشاشتِه، وقالَ بجمود:
-      إذن ليسَ ثمّةَ مشكلة‍!
أحسّت بالغضبِ لتجاهلِه، فلبِثتْ في مكانِها تحدِجُه بنظراتٍ متأجّجةٍ، فرفعَ بصرَه إليها ولبِثَ صامتًا لحظةً، قبلَ أن يقولَ كأنّه يَزْفِر:
-      مُريني.
-      [عقدت حاجبيها بغضب]: تطردُني للمرّةِ الثانية؟
-      لم أقلْها.
-      كنتَ تعنيها.
-      ليسَ لكِ منّي سوى ما أُبديه.
-      ما تُبديه يُنذرُ بما تُخفيه.
-      [بحدّة]: ماذا تريدينَ بالضبط؟
-      أن تكفَّ أذاكَ عنّي.
-      أذاي؟؟
-      يُرجفونَ أنّي أحبُّك!
-      [هاكمًا]: لا أفهمُ ما يعنيكِ من أمرِهم!.. ألستِ بينَ كلِّ حينٍ وآخرَ تقتحمينَ مكتبي لتُعلني أنّكِ تكرهينني؟
-      إذن لماذا يقولونَ ذلك؟
-      لا بدَّ أنَّ لديهم ما دفعَهم له!
-      أو ربما سوّلَ لكَ غرورُكَ هذا فأشعتَه!
-      هكذا تفترينَ عليَّ بلا بيّنة.
-      قلبي يُحدّثُني.
-      إذن فليسألْ قلبُكِ عقلَك: أيكونُ منّي مثلُ هذا الغرورِ وأنتِ تُعلنيني كراهيتَكِ في كلِّ حين؟
-      إذن.. إذن أردتَ الانتقامَ منّي.
-      عُدتِ تُلقينَ الاتهاماتِ جُزافا.
-      ضعْ نفسَكَ في موضعي.
-      أن يقولوا إنّي أُحبُّك؟
-      أجل.
-      [صمتَ لحظةً، ثمِّ أشاحَ ببصرِه]: لَتجاهلتُه لو حدث.
-      هذا لأنّكَ رجل.
-      [هاكمًا]: تذكّرتِ الآنَ أنّكِ امرأة؟
-      [مُحتدّةً]: ماذا تعني؟
-      لا شيء.
قالتْ فجأةً بقسوة:
-      لن يمكنَنا أن نُواصلَ معًا.
-      [ساخرًا]: تنوينَ الانسحاب؟
-      هذا حريٌّ بكَ أنت.
-      تطردينَني؟
-      نعم.
-      ليسَ هذا من حقِّكْ.
-      بل من حقّي.
-      بصفتِك...؟
-      رئيسةَ هذا القسم.
-      هكذا؟
-      أجل هكذا؟
-      لم تعْلمي إذن؟
-      [بتوجّس]: أعلمُ ماذا؟
-      لقد عيّنني مديرُ الشركةِ رئيسًا لإدارةِ قسمٍ ثالثٍ لتطوير النظم، نُنشئُه حديثًا.
-      [مصدومة]: ماذا؟
-      ما سمعتِ!
جاهدتَ لكي تكبتَ دمعةَ قهرٍ ودّتْ لو أفلتت، وتمتمتْ بغضبٍ مرير:
-  لا حقَّ لكَ في هذا.. أينَ كنتَ أنتَ وأنا أحملُ هذه الشركةَ على كتفيَّ، لتأتيَ فجأةً فتتسوّرَ في شهورٍ معدودات، ما بنيتُ أنا في أربعِ سنوات؟
-      كنتُ أقضي ثلاثَ سنواتٍ في الجيشِ تجنيدًا إجباريًّا، لكي أُدافعَ عنكِ حينما يجدُّ الجد.
-      هذا لا يدلُّ على أيِّ شيء.
-      بل يدلّ.
-      هأ!
-      يدلُّ أنّي لو كنتُ هنا منذُ البدايةِ لما كانَ لكِ شأنٌ يُذكر!
-      تدّعي أنّكَ أذكى منّي؟
-      هذا لا مِراءَ فيه.
-      ما أسهلَ الكلام!
-      تُريدينَ أن أُثبتَه لك؟
-      نعم.
-      ولو فعلت؟
تردّدتْ لحظةً، قبلَ أن تقولَ بحسم:
-      سأتركُ الشركة.
-      [عقدَ حاجبيه مندهشًا]: ليسَ إلى هذه الدرجة.. يكفيني اعترافُكِ بتفوّقي عليكِ.
-      تخافُ أن أهزمَكَ؟
-      وممَّ أخاف؟
-      يجبُ حينَها أن تتركَ الشركة.
همهمَ في خفوت:
-      إلى هذه الدرجةِ تكرهينَني؟
-      هَه: ماذا قلت؟
أطرقَ لحظةً قبلَ أن يقولَ بحسم:
-      موافق.
-      إذن فاقترحْ مضمارَ التحدّي.
-      اقترحي أنتِ ما تشائين.
-    إذن فلنخترْ مشكلةً برمجيّةً عَرضَتْ لنا في عملِنا ونَتَبارَ في حلِّها.. سنُعلنُ الأمرَ على الملأ.. وسيتمُّ التنافسُ هنا.. لن نبرحَ حتى ينتهيَ أحدُنا من ابتكارِ برنامجٍ يحلُّ المشكلة.. حينئذٍ يكونُ على الآخرِ الرحيلُ إلى الأبد.. موافق؟
-      موافق.
والتقتْ نظراتُهما في تحدّي.
***
تداعتْ كلُّ هذه الذكرياتِ في ذهنِها، وما زالتْ تجري بأصابعِها على الأزرار.
بدأَ سباقُهما المحمومُ يدخلُ في ساعتِه الثامنة.
اختلستْ نظرةً إليه، فوجدتْه منهمكًا في تدوينِ بعضِ الحساباتِ على ورقةٍ أمامَه.
دهمها فجأةً إحساسٌ مفزعٌ بفداحةِ ما تفعل.
إنّها تُقامرُ بأن تخسرَ كلَّ ما بنتْه طوالَ أربعِ سنواتٍ في لحظةٍ واحدة!
ولكن لا.. لا يمكنُ أن يهزمَها أبدًا.. مستحيل!
وواصلتْ عملَها في إصرار.
***
كانت تُبلي حسنًا.. ها هو النصرُ قابَ قوسينِ.. أدني من قابِ القوسين.
ملأها الحماسُ ونقراتُ أصابعِها تتسارع، بينما تلاشى من بدنِها إرهاقُ كلِّ الساعاتِ الماضية.
لقد هزمته تقريبًا.
راجعتَ بعضَ الأوامر، وأصلحتْ خطأً صغيرًا، ونفسُها تجيشُ بالزهو.
ضغطةٌ واحدةٌ على زرِّ الحفظِ وتسحقُه.
ولكن...!
معنى هذا أنّه سيرحلُ عنِ الشركةِ إلى الأبد.
عقدتْ حاجبيها، وهي تشعرُ بانقباضٍ عجيب.
وتساءلتْ في نفسِها:
-    أليسَ هذا ما كنتِ تسعَيْنَ إليه دومًا؟.. ها هي ذي الفرصةُ سانحةً أمامَكِ لكي تستردّي كلَّ ما سلبَه منكِ، وتطرديه من مملكتِك.
ولكنَّ هاجسًا في نفسِها أجابها:
-  وأليسَ من القسوةِ أن ينتهيَ مستقبلُه في هذه الشركةِ لمجرّدِ أنّه مغرورٌ أحمقُ لا يعرفُ لكِ قدرَك؟.. يجبُ أن تعترفي أيضًا أنَّ الشركةَ ستخسرُ بفقدِه كثيرًا.
ترددتْ لحظةً، ثمَّ لم تلبثْ أن حسمتْ أمرَها.. لا مناصَ من أن تنتصر، فالبديلُ الوحيدُ هو الهزيمة.. الرحيلُ بلا رجعة!
ومدّتْ إصبعَها تضغطُ الزرَّ.
***
-      انتهيت.
سادَ الصمتُ بعدَ أنِ انطلقتْ هذه الكلمة.
وحبسَ زملاؤهما الذينَ يتابعونَ المعركةَ أنفاسَهم في ترقّب.
كانَتِ النشوةُ تملأُ عروقَها، قبلَ أن تكتشفَ فجأةً في ذهولٍ أنَّ الصوتَ ليسَ صوتَها والكلمةَ ليستْ كلمتَها.
والتفتتْ بسرعةٍ، لتصفعَها ابتسامتُه الواثقة، وهو يتراجعُ في مقعدِه ويتمطّى، ويُردف:
-      يمكنُكِ أن تأتي لاختبارِ برنامجي لو أردتِ.
قالتْ بصوتٍ مُختنقٍ ذاهل:
-      لقد.. لقد انتهيتُ أنا أيضًا.
قالَ في حسم:
-      حتّى لو صحَّ هذا.. لقد أعلنتُ انتهائي قبلَك.. لقد هزمتُك.
عقدتْ حاجبيها لحظةً، ثمَّ تقدّمتْ منه، حيثُ راحت تختبرُ برنامجَه.
نعم.. لقد فعلَها.. وربما بحل أبرعَ من الذي استخدمته هي!
علاها وجومٌ واعترتْها كآبة، وصمتتْ لحظةً قبلَ أن تهمهمَ في مرارةٍ، وهي على وشكِ البكاء:
-      معكَ حق.. لقد أنجزتَه.
-      [بمرح]: هاه.. هل تعترفين؟
-      [شاردةً ذاهلةً]: أعترفُ بماذا؟
-      بتفوّقي عليكِ؟
صمتتْ طويلا، حيثُ نقلتْ بصرَها بينَ نظراتِ زملائِهما المشفقة، قبلَ أن تنهضَ بتثاقلٍ وتُتمتم:
-      لقد حصلتَ على ما تريد.. سأتركُ الشركة.
سرتْ همهمةٌ خافتةٌ بينَ زملائهما، بَيْنَا قالَ هو على الفور:
-      إنّني متنازلٌ عن هذا الشرط.
-      [هاكمةً]: أشكرُك.. لا أستطيعُ أن أقبلَ شفقتَك.. وداعًا.
والتقطتْ حقيبتَها، وانطلقتْ مغادرةً المكانَ دونَ أن تتركَ لأحدٍ فرصةً للكلام.
***
كلما قالتْ لنفسِها "أنتِ أقوى من أن تفضحَكِ الدموعُ" خنقَها البكاء!
حاولَ والداها إثناءَها عن قرارِها.. حاولَ زملاؤها.. بل حاولَ حتّى رئيسُها في العمل.
بلا جدوى.
رفضتْ أن تستقبلَ أحدًا، أو أن تتلقى اتصالا، أو أن تخرجَ من عزلتِها في المنزل.
وفي كلِّ وقتٍ كانتْ صورتُه تحتلُّ مُخيّلتِها، وهو يبتسمُ في زهوٍ إثرَ انتصارِه عليها!
***
ثمَّ بدأت تُخامرُها رغبةٌ مُلحّةٌ في أن تراه.
رغبةٌ أفزعتْها، فلمّا فسّرتْها بأنّها تريدُ أن تبدوَ أمامَه أقوى من أن تكسرَها هزيمتُه، لم تُقنعْ نفسَها!
كانت تريدُ أن تراه هو، كما اعتادتْ أن تراه لعامٍ متّصلٍ يوميًّا تقريبًا.
نعم نعم.. هي عادة.. روتين.
أو.. أو ربما هو إعجابُ المهزومِ بهازمِه، الضعيفِ بمُستضعِفِه!
أتُقرُّ بضعفِها؟!
ولمَ لا؟.. ألم يهزمْها؟
لا.. ليستْ هذه بالهزيمةِ، فقد كانتْ خيرَ نِدٍّ له، وقد أنجزتْ برنامجَها بالفعلِ لولا أن اختطفَ النصرَ من فوقِ شفتيها!
هيه.. من أينَ فَجَرَ لها هذا المُتعِبُ لينسفَ عالمَها الوادعَ نسفا؟!
***
بعدَ أسبوعينِ اثنينِ وجدتْه يزورُها في البيت.
أرغمتْها دهشتُها على استقبالِه!
قالَ لها باسمًا فورَ أن جلس:
-    خِفتُ أن تُحاولي طردي للمرةِ الثانية!
-    إنّكَ في بيتي.
-    أوَلم تَكُنْ شركتَك؟!
-     [تنهّدت]: ليتكَ كنتَ تعنيها!
-    كنتِ ملكتَها المتوّجةَ، عنيتُها أم لم أعنِها.
-     [هاكمةً]: آلآنَ وقد خلعتَني عن عرشي؟
-    أنتِ التي تنازلتِ لي عنه.
-    فماذا جاءَ بكَ اليومَ؟
-     [باسمًا]: اشتقتُ لتكبّرِكِ العابسِ وكراهيتِكِ لي.. لم يَعُدْ للشركةِ طعمٌ من دونِك.
-    [بإباء]: لن أعودَ مهما حدث.
-    جوابٌ نهائيّ؟
-    كلُّ أجوبتي نهائيّة!
-    كلامُ نساء!
-    أنت لا تعرفُني: لا أتراجعُ أبدًا.
-    وأنت لا تعرفينني: أحبُّ هذا النوع.
-     [بإحباطٍ مندهشٍ يُخالطُه سخرية]: خِلتُكَ لوهلةٍ سترجوني أن أعودَ للعمل!!
-    ولو فعلتُ؟.. هل ستعودين؟
-    لا.
-    ليستْ حاسمة.
-    ....؟!
-    "لاؤك".. مضطربةٌ باهتة.. ليست "لاءكِ" الباترةَ التي طالما قطعتْ رقابَ عنيدِ النقاش.
-    مدحٌ هذا أم ذم؟
-    مدحُ ذمًّ وذمُّ مدح!
-    تخبرُني أنّكَ مضظربُ الرأي؟
-    أخبرُكِ أنّكِ مُحيِّرةُ الفكر.
-    لقد قلتُ لا.
-    عناد.
-    ما جافيتَ الصواب.
-    جافيتِ أنتِ سَريرةَ نفسِك.
-    [ترددت لحظةً ثمَّ تنهّدتْ]: نعم أريدُ العودة.
ابتسم، فأسرعتْ تستدرك:
-    لكنّها إرادةٌ أعرفُ كيفَ أكسرُها.
-     وحينما تملأُ الشظايا نفسَكِ بالخدوش؟
-     تَصقلُني الكرامة.
-     وتبقَيْنَ بعضُكِ يصرعُ بعضَك.
-    حينًا، ثمّ يلتئمُ بعضي ببعضي.
-    لن يعودَ البعضُ في البعضِ كُلاًّ!
-    [غامت عيناها حزنًا]: لهذا لن أعودَ إلى الشركةِ من جديد.
-    لا تفعلي.
-    [نظرتْ إليه بتعجّب]: لقد كنتَ ترجوني منذُ قليل.
-    أنا؟!.. إطلاقًا.
-    افترضتَ أنّكَ فعلت!
-    ولم أصلْ إلى نتيجة!
-    آيستَ سريعًا؟
-    آيسُ مما أكره؟!
-    تكرهُ أن أعودَ للعمل؟
-    لا أؤمنُ بعملِ المرأةِ أساسًا!
-    لا تعتقدُ أنّ هزيمتَك لي تعنى أن النساءَ غبياتٌ أو أقلُ ذكاءً من الرجال.
-    كنتُ أعتقدُ هذا بالفعل.. حتى رأيتُك!
-    تسخرُ منّي؟!
-    حينما أسخرُ لا يستوضحُني أحدٌ، فأنا لا أخاف شيئًا فأواري سخريتي!
-    لا أفهمُ ماذا تريدُ بالضبط!
صمتَ لحظةً، نظرَ فيها في عينيها مباشرةً، ثمَّ تمتمَ ببطء:
-    أريدُ أن أتزوّجَك!
تجمدتْ في عينيه لحظةً تضاربتْ فيها مشاعرُها، قبلَ أن تُشيحَ بطَرْفِها، وتسألَه بسخريةٍ مضطربة:
-    تريد الجاريةَ التي قهرْتَها؟!!
-    أريدُ الجاريةَ التي ملكتْ سيّدَها، حتى تمنَّى أن تُحرّرَه، وليتَها لا تفعل!
-    ما زالَ يُسعدُكَ أن أخضعَ لكَ فتسيطرَ عليّ .
-    وأنتِ؟.. ألا يُسعدُكِ أن تَخضعي لي فتسيطري عليّ؟!
-    أيُّ "لاءاتي" تريد؟
-    تلك التي تعني "نعم"!
ابتسمتْ رغمًا عنها، فقال:
-    لقد رغبتُ فيكِ منذُ أوّلِ مرّةٍ رأيتُك.. شدّني إصرارُك، قوّةُ شخصيّتِك، عبقريّتُك، تفوّقُك.. هذا ما دفعني لأعملَ بأقصى طاقتي حتى أصلَ إلى منزلتِكِِ.. ثمَّ إلى منزلِك.
-    [بتوتر]: تسخرُ منّى؟
-    [هزَّ كتفيه]: أجيبي عنّي.
-    لا يبدو عليكَ شيءٌ من هذا.. إذن تحاولَ أن ترفعَ معنوياتي؟.. آه.. شكرًا لك!
-    انظري في عينيّ.
-    [نظرتْ فيهما بتهيب]: ماذا أتوقّعُ أن أرى؟
-    حصافتَك.
-    في عينيك؟!
-    إنّهما مرآةُ نفسي، فافهمي فيهما كلماتي.
-    ألا تجيدُ المراوغة؟
-    أحيانًا!
-    ومن يعصمُني منك؟
-    صراحتي.
-    هذه تُخيفُني أكثر.
-    تريدينَ أن أُراوغَك؟!
-    إذن لشعَرتُ أنّكَ تخشاني.. أو تخشى عليّ.
-    لوددتُ.. ولكنَّ هذا يقتضي أن أهرُبَ بعينيَّ من عينيكِ، لأنَّ ضياءَهما يسطعُ في خبايايَ، فتستسلمُ أسراري كمجموعةٍ من اللصوصِ دهمتْها الشرطةُ بِلَيْل.
-    وما منعَكَ أن تهرُب؟.. فلتهرُبْ.
-    أهدرُ أسراري خيرًا من أن يشقى قلبي.
-    [بارتباك]: لم.. لم يَبْدُ عليكَ شيءٌ من هذا قبلُ!
-    مِمّاذا؟
-    من.. من إعجابِكِ بي.
-     رأيتُكِ تَصُدّينَ كلَّ مَن يضعُفُ أمامَك، فلم أكُنْ لأقتحمَ وجدانَكِ وأنا في مرتبةٍ دونَك.. لهذا كان عليّ أن أكونَ قويّا، أقوى منكِ بمراحل.
-    لهذا تحدّيتَني؟
-    بل نافستُك.
-     وهزمتَني!
-     لقد كدتِ تهزمينَني، ولكنّكِ تردّدتِ لحظةً أو ارتبكْتِ.. لقد استغللتُ هذا فَحَسْب!
-   [أطلقت تنهيدةً حارّةً، وشردت بعيدًا]: أتذَكّرُ هذه اللحظةَ جيّدًا.. كنتُ قابَ قوسينِ أو أدنى من هزيمتِك.. لا أدري ماذا حدث.. ارتعشتْ شفتاي، وتأخرتُ ثانيتينِ في إعلانِ انتصاري، فانتصرتَ أنت.
-    أنْشَتْكِ لذةُ الفوزِ عن إعلانِ انتهائِك؟
-    [بتردد]: بل.. بل أربكني شيءٌ منَ الإشفاقِ عليكَ لمْ أجدْ له ما يُبرّرُه.
-     كنتُ واثقًا من هذا.. كنتُ أعرفُه.. لمحتُه في عينيكِ لحظةً قبلَ أن أُعلنَ انتصاري.. وإن كان لي تحفّظٌ صغيرٌ على كلمةِ الإشفاقِ هذه!
-    ما بالُها؟
-    في غيرِ موضعِها.
-    اقترحْ إذن أيّها البليغ.
-    ربّما كان الأدقَّ أنكَ تهتمّينَ لأمري.
-    أنا؟!.. لقد كان أحدُنا يكرهُ الآخر.
-    تُكرّرينَها للمرّةِ الثالثة؟
-    لا.
-    قلتِ إنّكِ تكرهينَني.
-    ألم تعُدْ تُقنعُكَ أيٌّ من "لاءاتي"؟
-    تريدينَ أن أُكذّبَ أُذنيّ؟
-    لم أقلْ إنّي أكرهُك.. قلتُ "يكرهُ أحدُنا الآخر".
-    إذن فهو أنتِ، فلم أحملْ لكِ يومًا سوى التقديرِ والاحترامِ و...
-    و...؟!
-    [ضاحكًا وهو يغمزُ بعينِه]: والإشفاق.
-    [بدلال]: هذه كلمةٌ في غيرِ موضعِها!
-    [بمكر]: يمكنُكِ أن تتخيّلي.
-    [تنهّدت]: صعب.
-    لِمَهْ؟
-    كلُّ الشواهدِ ضدَّك.. لقد عمِلْتَ على تحطيمى!
-    أنتِ التي حطّمتِ نفسَك.. لقد تركتِني أنتصر.. أردتِني أنتصر.
-    بل تهاونتُ لحظةً.. هفوة.
-    بل أردتِ وتعمّدتِ.. خُطّة.
-    أخطّطُ لهزيمتي؟!
-    تخطّطينَ لانتصاري.
-    ولماذا أفعلُ هذا؟
-    لتمنحيني فرصةَ الاقترابِ منكِ.
-    بانكساري أمامَك؟
-    خَشِيتِ أن أنكسرَ أنا أمامَك.
-    ولمْ تَخْشَ أنتَ أن أنكسرَ أمامَك؟
-    هيّأتُ لكِ جبيرةً من ضلوعي، ومنتجعًا في قلبي.
-    أفلا تخافُ أن أستشفيَ لكرامتي فأهيضَ ضلوعَك؟
-    إنّها مهيضةٌ لكِ عنيدةٌ بك.
-    تريدُ أن تحتويني؟
-    كما تُريدينَ أن أحتويك!
-    تتكلمُ بثقة.. أم أنّه الغرور.
-    غرورُ مَن عِندَه أمل.
-    لا أستطيعُ أن أتزوجَ رجلا يقتلُ مواهبي.
-    إذن تستطيعي أن تتزوّجيني!
-    إنّك لا تُؤمنُ بعملِ المرأة!
-    خارجَ بيتِ زوجِها.
-    لن أُهدرَ كلَّ خبرتي هباءً.
-    لن تُهدريها.. سنبدأُ أنا وأنت أعمالَنا الخاصّة، من داخلِ منزلِنا.. سنستأجرُ شقتينِ متجاورتين، ونعملُ عبرَ الإنترنت، وستكونُ أرباحُنا مناصفة.
-    أليس هذا عملا؟.. لماذا لا تعترضُ عليه بدورِه؟
-    لأنّك ستعملينَ معي، وستكونينَ تحتَ ناظريَّ في كلِّ ثانية.
-    لا تثقُ بي؟
-    أثقُ لكنّي أغار.. يُفزعُني أن تكوني مع غيري من الرجالِ طيلةَ النهار.
-    هذا هو الشكُ بعينِه!
-    هذا هو الحبُّ بعينِه.. كخوفِ الأمّ على ابنِها الغائب.
-    [بابتسامة]: تُريدُ أن تتزوّجَني أم تتبنّاني؟
-    حينما تذوقينَ حناني فلن تستطيعي استخلاصَ العالمِ منّي.. سأكونُ لكِ الزوجَ والأبَ والأمَّ والأخَ والصديق.
-    تريدُ أن أفنى فيك؟
-    هكذا أحيا بك.
-    حبٌّ هو أم قيد؟
-    هلاّ قيدتِني أنتِ بحبِّك؟!
-    يبدو أنك تريدُ هزيمتي حتى في الحوار.
-    هذه الهزيمةُ بالذاتِ لن أتنازلَ عنها.
-    ولكنّ بدءَ عملٍ مستقلٍّ شاقٌّ ويحتاجُ إلى مجهودٍ مُضني.
-     لهذا اخترتُك.. إنّكِ النُّموذجُ الذي يُوافقُ فتاةَ أحلامي وطموحاتي المستقبليّة.. طالما تمنّيتُ فتاةً ذكيّةً تفهمُني بسهولة، جَلْدةً تُشاركني عملي وتُعضدُّني ضدَّ صعوباتِ البداية، مسئولةً لا تُهملُ أهمَّ واجباتِها: رعايةَ بيتِنا وأولادِنا.
-    هذه فقط هي كلُّ المواصفات؟
-    محتشمة، مهذّبة، هادئة.
-    فقط؟!
-    ورائعةُ الجمال.. لا أستطيعُ أن أُنكر.
-    لماذا إذن لم تَقُلْه مباشرةً؟
-    [بمكر]: خِلْتُ الفتاةَ العبقريّةَ تختلفُ عن باقي الفتيات.
-    لماذا؟.. هل تظنُّني جُلمودًا من الصخر؟
-    إذن فهل لكِ قلبٌ ينبض؟
-    يبدو أنّكَ ثقيلُ السمع!.. إنّه يملأُ الدنيا ضجيجا!
-    إنّي ثقيلُ السمعِ قد أصبتِ، فماذا يقول؟
-    [بخجل دالّ]: يقولُ انظرْ في عينيّ.
-    ماذا أتوقّعُ أن أرى؟
-    [بدلال]: يرجعُ هذا إليك.. [مداعبةً] على ألا يكونَ بصرُكَ ثقيلا كسمعِك.
-    لم أكنْ لآتي.
-    هكذا؟.. واهيًا ما تُحبُّني إذن.
-    لمَ تقولينَ هذا؟
-    تُحجِمُ لو خَشِيتَ رفضي.. هكذا تبيعُني بكرامتِك.
-    هكذا أشتريكِ بها.
-    هذا حبٌّ لا يُسعدُني.
-    فما يُسعدُك؟
-    رجلٌ يستبسلُ دوني.
صاحَ في غيظٍ مرح:
-    أيّتُها العنيدةُ الغافلة.. اثنا عشر شهرا تورّمتْ فيها أجْفاني سهرًا، وكَلَّ ظهري عملا، وشاطَ عقلي فِكْرًا، ولا همَّ لي سوى أن أصلَ إليكِ فتنظري إليَّ، محتملا في سبيلِ ذلكِ كلمةَ الكراهيةِ تَرجمينَني بها ولا تبالينَ فتُمزّقُ قلبي.. كلُّ هذا ولا تَرَينَني استبسلتُ دونَك.. ماذا تريدينَ إذن؟.. تحريرَ (القدس)؟
-    [بابتسامةِ دلال]: ولمَ لا؟
-    [بلهفة ورجاء]: إذن هل توافقين؟
-    على تحريرِ (القدس)؟!
-    بل على الزواجِ منّي؟
-    [وارتْ سعادتَها وتصنّعتِ الجدّيّة]: ليسَ قبلَ أن تُجيبَ سؤالَيّ.
-    فهاتي الأوّل.
-    كنتَ تُداعبُ الفتياتِ في الشركةِ وتضاحكُهنَّ بينما كنتَ معي عبوسًا قمطريرا.. فكيفَ تزعمُ الآنَ أنّكَ تحبُّني؟
ضحكَ فسألتْه بغيظ:
-    هل لي أن أعرفَ ما يُضحكُك؟
-    غيرتُكِ هذه، فهي بالضبطِ ما كنتُ أَنشد!
-    هكذا؟.. فاعلمْ إذن أيّها الذكيُّ أنّها كانتْ أحدَ أسبابِ سخيمتي عليك وكراهيتي لك.
-    ما أحبَّها لنفسي من كراهية!
-    تحبُّ كراهيتي لك؟
-    ما دامتْ كراهيةَ امرأةِ تغارُ، لا مبرمجةٍ تتحدّى.
-    يا للرجال!.. إذنْ فكنتَ تفعلُ ذلكَ لتَغيظَني!
-    ....!
-    ولم.. ولم تشغلْكَ فتاةٌ أخرى عنّي؟
-    [متنهّدًا]: كيفَ وقلبي لم يَكُنْ معي؟
ابتسمتْ لحظةً قبلَ أن تقولَ بمكر:
-    فما قولُكَ لو عاقبتُكَ بالمثل؟
-    [عقدَ حاجبيه]: ماذا تعنين؟
-    أعني: أرى كيفَ تغارُ عليَّ من الرجالِ الآخرين!
-    [متوتّرًا]: لا يمكنُ أن أسمحَ أبدًا بحدوثِ شيءٍ من هذا.
-    فلمَ سمحتَ لنفسِكَ به؟.. ألأنّكَ رجل؟
أطرقَ لحظةً، قبلَ أن يقولَ برجاء:
-    هَبِيها لي هذه المرّة.
-    ولا تعودُ إلى مثلِها؟
-    ما حييت.
صمتتْ لحظةً، تعلّقتْ عيناه فيها بعينيها، قبلَ أن تبتسمَ قائلةً:
-    قد وهبتُها لك.
انبسطتْ أساريرُه وتنهّد، وقالَ في امتنان:
-    لكِ عندي واحدة.
ونظرَ في عينيها بحبّ، فتخضّبَ وجهُها بالخجل، فأسرعتْ تقول:
-    هل.. هل أطرحُ السؤالَ الثاني.
-    [ضاحكًا]: ليتَه لا يكونُ عسيرًا كسابقِه.
-    [ضاحكةً]: ولمَ لا؟.. لعلّي أكسبُ نقطةً أخري.
-    آه.. ألا تكفّينَ عن هذا التحدّي؟
-    [خافضةً طرْفَها]: كنتُ في التحدّي الأوّلِ أدافعُ عنِ مملكةٍ طننتُني متوّجةً على عرشِها فهُزمت.
-    [بلهفة]: وفي هذا التحدّي؟
اختلستْ نظرةً إليه، قبلَ أن تقولَ بخَفَر:
-    ليسَ الأمرُ بيدي.
-    ولو أتتْكِ المملكةُ ترجوكِ أن تُتوّجي علي عرشِها، فهل تنهزمينَ عنها يومًا ما؟
-    [بحياء]: لا أعتقدُ أنّي ألِفتُ الهزيمةَ بعد!
-    هذا جوابٌ غيرُ مباشر.
ابتسمتْ، وقالتْ لتهربَ منه:
-    لم.. لم أطرحْ سؤالي الثاني بعد.
-    [متنهّدًا باستسلام]: فهاتيه.
-    لماذا أجّلتَ قدومَكَ حتّى اليوم؟.. نسيتَني، أم لذّ لكَ ما كنتُ فيه من غمٍّ وكمد؟
-    لا ما نسِيتُكِ لحظة.
-    إذن فهي الأخرى.
-    كَبُرَتْ كلمةً!.. لو علمتِ كم تألّمتُ لكِ لما قلتِ هذا.
-    إذن ماذا؟
-    أردتُ أن يُفتّتَ شوقُكِ إليَّ قلبَك، فيَسَّاقطُ عنه ما غلّفَه من العناد.
-    أيّها المغرورُ القاسي.. وهنتُ عليك؟
-    ما كانَ لي من سبيلٍ غيرُه.
-    الغايةُ عندَكَ تُبرّرُ الوسيلة؟
-    لو كنتِ موضعي، وراعتْكِ عينا ملاكٍ فاتنٍ، وجهُه بهجةُ الدنيا، ورُوحُه واحةُ الأمان، وقربُه كلُّ المنى، فماذا أنتِ فاعلة؟
لم تُحرْ جوابًا.. أطرقتْ وبسمةٌ منتشيةٌ تتألّقُ في وجهِها.
أردفَ هامسًا:
-    هلاّ تواضعَ لي الملاكُ إذن، وأدخلني جنّتَه؟
همهمت بخجل:
-    ليس هذا من اختصاصِ الفتيات.. حتى الذكياتِ منهنّ!
هبَّ واقفًا هاتفًا:
-    إذن فلأخاطبْ عمّي.
أطرقتْ بوجهٍ ترسمُه السعادة، فانطلقَ بسرعةٍ لهفى، كأنّما يخشى أن تتراجعَ في قرارِها!
***
 
محمد حمدي غانم
(17/5 ـ 21/5)/2002
 
 

هناك 7 تعليقات:

  1. حضرتك جسدت واقعة حدثت معي

    عتبي على بعض الكلمات الصعبه التي ترهق

    ردحذف
  2. مرحبا م. يمنى:
    يسعدني أهتمتمك بالقصة وتماسها معك..
    بخصوص الألفاظ التي قد تكون صعبة، كنت أقول قديما إن كل طالب استلم المعجم الوجيز في الثانوية العامة، ويمكنه أن يضيف لحصيلته اللغوية هذه الكلمة أو تلك.. بعد هذا صارت المعاجم الكترونية والبحث فيها لا يحتاج وقتا ولا جهدا.. الآن، يمكنك أن تكتبي أي كلمة في جوجل، وستظهر لك معانيها في مواقع المعاجم.. الفكرة هنا أن الكاتب يجب أن يأخذ بيد القارئ خطوة لأعلى في اللغة والفكر والذوق العام والحس الإنساني، وإلا صار النص الأدبيي مجرد تضييع وقت.. لكن للأسف، صارت كثير من الكتابات الحديثة بالعامية وبلغة الحواري، ومستوى الكتاب أنفسم يهبط إلى الحضيض ولا يجدون من يقرأ لهم.. هذه نتيجة من نتائج تردي التعليم في بلادنا خاصة تعليم اللغة العربية.. وهي نتيجة من نتائج "إزالة الحشو من المناهج" وتسهيل الامتحانات وتحويل كل شيء في حياة الطالب والمواطن في مصر إلى "تيك أواي".. احفظ وانسَ.. فاعذريني إن أتعبتك معي قليلا.. تحياتي

    ردحذف
  3. جميل جدا لك حس لغوى عال وكلماتك جميلة جدا

    ردحذف
  4. أنا بعتبر حضرتك من العباقرة الذين يجب متابعتهم ومتابعة كتابتهم وأفكارهم

    ردحذف
  5. شكرا لتقديرك أخي الفاضل.. شهادة أعتز بها.. تحياتي

    ردحذف
  6. ابداااااااااااااااااااااااع متناهي واحسايس جميله جداااااا

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر