المتابعون للمدونة

الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات (4)

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات!
(4)
صناعة العقل

يهمني هنا أن أتحدث قليلا عن أدب د. (أحمد خالد توفيق)، فقد جاء بمثابة نقلة نوعية بعد د. (نبيل فاروق)، فهو يكتب بنفس الغزارة والتنوع في مجال الميتافيزيقا والرعب، ولكنّ لغته أكثر بلاغة وشاعرية، وأفكاره أكثر عمقا وتفكرا وتفلسفا، وشخصياته لها أبعاد إنسانية واجتماعية، وليس له قالب ثابت لغويا وأسلوبيا، ورواياته تعتبر موسوعة طبية علمية ثقافية فنية نقدية.......، فأبطاله يثرثرون كثيرا في أيّ شيء وكلّ شيء، ويملأون الروايات بالتأملات الساخرة والمعلومات عن كلّ شيء في الغرب والشرق والماضي والحاضر!
بخلاف هذا يمتلك د. (أحمد) جرأة كتابية هائلة:
فروايته "حبّ في أغسطس" تضعك في رواية رومانسية محلّقة تدور أحداثها في اليابان، لتوقظك فجأة وأنت وسط انفجار القنبلة الذرية، فأنت لم تنتبه إلى أنك في أغسطس عام 1945!
وروايته "أرض العظايا" رسالة تحذير مخيفة من أنّ استمرار العرب في الكسل الاستهلاكي اعتمادا على عائد البترول سيؤدي إلى تخلص الغرب منهم بعدما ينتهي دورهم، بحيث لا تتبقى منهم سوى عظايا في المتاحف!
أمّا روايته "قصاصات" فهي جولة في الوجدان الجمعي اليهودي عبر اختراع علمي، ترينا عينة من جرائمهم التاريخية والمعاصرة بطريقة مفزعة مؤلمة تثير الغضب!
أمّا "فلاسفة في حسائي" فهو عمل مذهل يختصر فلاسفة الغرب وفلسفاتهم في كتيب مغامرات!
ولا داعي لأن أكلمكم عن "شيء من حتّى"، الذي يعتبر مغامرة تاريخية لغوية نحوية ممتعة!
وغيرها من عشرات الروايات التي لا تتوقف عن إدهاشك وإثرائك، كروايات "الكاهن الأخير" و"أرض أخرى" و ؟؟؟ وغيرها.
يمكننا أن نختصر كلّ الكلام بقول د. (أحمد) عن نفسه إنه حاول تغمير الأدب وتأديب المغامرة.. وأظنه قد نجح نجاحا مبهرا، وبفضله صار فتية تحت الثامنة عشرة يقرأون عن الفلاسفة والأدباء والمفكرين والنقاد ويرون الحياة بصورة أعمق.. كلّ هذا وهم يظنون أنهم يتسلون!
يقول د. أحمد خالد حول رسالته:
"أنا لست مصلحاً ولا أنا (عمرو خالد).. أنا فقط أحاول أن أسليكم بشكل لا إسفاف فيه"
تبدو رسالة بسيطة.. أليس كذلك؟
في الحقيقة هي أعمق مما تبدو عليه بكثير.
فهذه التسلية تحوي منهجا للتفكير يتمّ تدريب القارئ عليه بدون وعي منه.. هذه هي عبقرية الحدوتة.. الخبرة المنقولة بدون وعظ.. رؤية الدنيا بمنظور آخر.. اختزال التجارب في حيز زمني محدود، ليبدأ الإنسان من حيث عرف أين انتهى الآخرون.. منطق في الاستنتاج والاستدلال.. إعادة فكّ وتركيب للعقل بطريقة لا تسبب الصداع.. تجسيد للأحلام لتنتقل من عالم الخيال إلى وجدان جيل جديد، سيكون منه من سيعمل على نقلها إلى عالم الواقع.
د. (نبيل فاروق) فعل هذا برواياته التي سخر منها الكثيرون (وربما فهم بعضهم تأثيرها فحرموه عشرين عاما من عضوية اتحاد الكتّاب وهاجموه بضراوة).. ود. (أحمد خالد) أيضا يفعله.
رأيت تعليقا يقول صاحبه:
"أهنئك يا دكتور أحمد..  لقد أثّرت في شباب الوطن العربي كما أثر د. نبيل بالضبط.. لا أعرف إن لم تكن هناك روايات مصرية للجيب أية ثقافة كنا ننتهجها الآن"
أنا أعرف: ثقافة طه حسين ونجيب محفوظ والسباعي وعبد القدوس، التي عملت ببراعة على انحدار مستوى الصفوة باستمرار من جيل إلى جيل، لدرجة أنّ المرء صار يظنّ أن عصر الاحتلال الإنجليزي هو العصر الذهبي في مصر، وهو كذلك حقّا، لأنهم كانوا قد بدأوا ثقب برميل العسل حينها حتّى وصلنا فارغا مملوءا بفضلاتهم!!
لكني أرى الآن أملا في الجيل الذي صنعه د. (نبيل فاروق) ود. (أحمد خالد).. إنهما كلمة طيبة كشجرة طيبة بإذن الله، ستزيد فروعها تشعبا وإثمارا مع كلّ كاتب جديد يخرج من أصلها، لتؤتي أكلها بإذن الله كلما تقدم بنا الزمن.
***
لكل هذا ، أريد أن أشكر د. (نبيل فاروق) ود. (أحمد خالد) وكل من كتبوا أدبا رفيعا راقيا ممتعا ومفيدا، حتّى ولو لم يعترف به النقاد كأدب جاد.. (في رأيي: هذا الكاتبان ربيا جيل الثورة).
فهم قد سدوا الثغر الذي يقفون عليه جيدا، وهم خطوات مهمة في طريق الخروج من التبعية والتغريب.. وهذا أمر من المنطقي أن يتمّ بالتدريج، بتراكم الخبرات واستعادة الثقة بالذات.
هذا على الرغم من أنّ العازل الذي شكّلته كتابتهما لا يخلو من بعض الثقوب.. ولكن حتّى مع وجودها.. يظل فضلهم لا ينكر.
سيبدو د. (نبيل فاروق) محايدا في كتاباته، وكلّ بطلاته تكشف شعرها وتتبرج ـ بل هكذا رأيت زوجته معه في إحدى الصور.
وسيكون د. (أحمد خالد) أبلغ أسلوبا وأغزر معرفة وأقرب درجة إلى القضية، وسيكتب "حب في أغسطس" و"أرض العظايا" و"قصاصات"، لكنه في حواراته سيمتدح المترنحين الفاحشين من أمثال (علاء أسواني) وغيره.
ورغم هذا وذاك، تبدو هذه الهنات أقل بكثير مما يرتكبه في كتاباتهم أدباؤنا العظام (الذين تساقط عنهم لحم الفضيلة)!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر