المتابعون للمدونة

الجمعة، 28 أكتوبر 2011

موسيقى الشعر.. 1- مقدمة

موسيقى الشعر العربيّ.. دروس مبسطة للهواة
بقلم: محمد حمدي غانم
1- مقدّمة
تهدفُ هذه الدروسُ إلى شرحِ موسيقى الشعرِ بأسلوبٍ مبسّطٍ، لمحبّي الشعر..
ولكن قبل أن نبدأ، علينا أولا أن ندلي بدلونا في قضيّة هامّة، تتعلّق بما إذا كانت هناك جدوى من تعلّم موسيقى الشعر أم لا.
فمنذ ظهور الحركات الفوضويّة والعبثيّة، انقلبت موازين الفنون والآداب ـ بل والدين نفسه والحياة كلّها ـ رأسا على عقب، وظهرت تيارات ترفض كلّ قديم وتدعو إلى كلّ بدعة.. وتدريجيّا بدأت تظهر مدارس شعريّة تدعو إلى التحرّر من الشكل العمودي ذي البيتين، والتحرّر من القافية، ثمّ التحرّر من الوزن، ليصير الشعر مجرّد كلمات نثريّة عاديّة، وذلك بدعوى تحطيم القيود وإتاحة المجال للشاعر لكي يحلّق في آفاق الإبداع.
هنا يجب ملاحظة ما يلي:
1-  إنّ الإبداع صنو الإعجاز.. بمعنى أنّني أعجب بك لأنّك تستطيع أن تفعل ما لا أستطيع أن أفعله.. فلو رأيت رجلا يمشي على الأرض فهذا عادي، ولكن لو رأيته يمشي على حبل فهذا مدهش.. ولو لعب حركات بهلوانيّة على الأرض فهذا مبهر، ولكن لو لعبها فوق الحبل فهذا مذهل!.. هذا هو الأمر نفسه بالنسبة للشعر، فهناك من يتكلّم، وهناك من يتكلّم ببلاغة.. هناك من يتكلّم كلاما موسيقيّا لكنّه عاديّ، وهناك من يتكلّم كلاما موسيقيّا جميلا.. هناك من يضمّن كلماته فكرة، وهناك من يحمّل موسيقاه عاطفةً وقضيّة.. وكلّ على حسب عبقريّته.
2-    من يدّعون أنّ "القيود الموسيقيّة" ضدّ الإبداع لا يفقهون شيئا عن قدرات المخّ البشريّ.. ولو عمّمنا دعواهم هذه، لما سار إنسان على قدميه، ولما فاه بحرف!
هل نسيتم المجهود المذهل الذي بذله آباؤنا ليعلّمونا الجلوس، ثمّ الحبو، ثمّ الوقوف، ثمّ الخطو، ثمّ المشي، ثمّ الجري؟
هل نسيتم كم من أوقات أمضتها أمهاتنا تعلّمنا كيف ننطق الحروف ثمّ الكلمات، ثمّ الجمل، وكم من السنوات الدراسية أمضيناه لكي نتعلم كيف نصوغ جملا فصيحة سليمة؟
إنّ كلّ شيء نفعله في حياتنا هو عمليّة في غاية التعقيد، بذلنا سنوات لنتقنها.
هل تدري كمّ العمليات المعقّدة التي يقوم بها المخّ البشريّ لكي تخطو خطوة واحدة؟
في البداية تفكّر في الحركة، وتوجّه بصرك نحو الموضع الذي ستخطو إليه، حيث تقدّر الطاقة اللازمة لدفع قدمك إلى هناك (وذلك بناء على تجارب سابقة كثيرة في تقدير الأبعاد)، ثمّ تتّخذ القرار، فيعطي المخّ إشارة لعشرات العضلات في رجلك لتحرق جزءا من مخزونها من الغذاء، لتتولّد الطاقة اللازمة (مع توجيه الرئتين لتوفير الكمّيّة اللازمة من الأكسجين لحرق هذا الغذاء، والقلب لضخ الدم المناسب لحمل هذا الأكسجين إلى العضلات وتخليصها من فضلات عملية الاحتراق)!!
أعتقد أنّ الإخوة دعاة التسهيل، لو فكّروا في كلّ هذا التعقيد، لاختاروا على الفور القعود في أماكنهم، دون أن يتحرّكوا خطوة واحدة!!
3-  كما أنّ الشاعر لا يفكّر أبدا في الموسيقى وهو يكتبها.. إنّها تأتي تلقائيّة منسجمة مع ما في ذهنه من أفكار ومعاني.
ولكي تتخيّلوا ذلك، يجب أن ألفت انتباهكم أكثر إلى قدرات المخّ البشري:
فالمرأة التي تتعلّم أشغال الإبرة (التريكو)، تَخِزُ أصابعها بالإبرة مرارا وتكرارا، رغم أنّها تركّز بكلّ حواسّها في هذه العمليّة.. ولكن مع شهور من التدريب، نجد أنّها تغزل التريكو بمهارة وسرعة فائقتين، بينما هي تتابع ببصرها التلفاز، أو تتحدّث مع ابنتها!
مثال آخر أقرب صلة: الكلام العاديّ الذي نقوله في أيّ نقاش:
هل تتصوّر أنّ تفوّهك بهذا الكلام عمليّة في غاية التعقيد؟
فأنت تكوّن معنى في ذهنك، ثمّ تبحث من بين ملايين الكلمات في ذاكرتك عن الكلمات التي تخدم هذا المعنى، محاولا صياغتها في إطار لغوي مفهوم للطرف الذي تخاطبه.. علما بأنّ كلّ كلمة لديك لها أكثر من معنى، وأكثر من إيحاء.. تذكّر كيف كنّا نكّون الجمل بصعوبة في طفولتنا، وكيف كنّا نخطئ في مدلولات الكلمات (كأنّ يقول الطفل مثلا: لقد رأيتك غدا!).
كلّ هذا يفعله المخّ البشريّ في أجزاء ضئيلة من الثانية، بحيث لا ينتبه محدّثك إلى أنّك قد تأخّرت في الردّ عليه.
يا صديقي: حتّى كتابة النثر العاديّ هو في حدّ ذاته معجزة، لأنّك تحاول أن تختار كلمات مناسبة للفكرة، تصوغها في نسق يحققٌّ التالي:
-       يعطي معنى منطقيّا.
-       يحافظ على قواعد الصرف والنحو.
-       يكون بليغا.
-       يكون مبتكرا (لو كنت مبدعا).
وهي عمليّات ذهنيّة في غاية التعقيد، لم يتّضح مدى تعقيدها إلا حينما حاول المبرمجون وعلماء الكمبيوتر محاكاتها برمجيّا!.. وما زالوا عاجزين حتّى الآن عن أن ينتجوا برنامجا يفهم المعاني، أو يترجم ترجمة غير حرفية من لغة لأخرى!
فهل لو أضفنا بُعدي الوزن والقافية، نكون قد حبسنا عبقريّتنا وقيّدنا إبداعنا؟
لا بالطبع..
لأنّ كلّ ما نفعله، هو ببساطة استغلال قدرة المخّ البشريّ على التدرّب، ليصبح الوزن والقافية شيئا عاديّا تماما بالنسبة لنا، مثل المشي والكلام بل وأسهل.
أظننا الآن متفقون على أهمية دراسة موسيقى الشعر.. وأحب أن أطمئنكم مجددا إلى أن هذه الدروس تهدف إلى تدريب الهواة على موسيقى الشعر، أكثر من تلقينهم مصطلحات علم العروض.
نفعكم الله بها.

هناك تعليق واحد:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر