المتابعون للمدونة

الثلاثاء، 19 أبريل 2011

حكاية حزينة في فصل مهمل من فصول التاريخ

حكاية حزينة في فصل مهمل من فصول التاريخ

في عام 2008 نشرت مقالا على موقع أدباء دوت كوم بعنوان "والقادم... أسوأ"، هذا هو نصه:
ماذا تتوقع أن أقول لك غير أخبار عن المزيد من الغلاء والمزيد من الجياع؟
هل تظن أن تعليم "احفظ وسمع وانضم إلى طابور العاطلين" سيطعمك الشهد والعسل ويجعلك سيد الكون؟
أم إن إعلام الراقصات سيجعلك تعيش في مجتمع من الفلاسفة؟!
ألم يلقنوك من قبل أنه: وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا؟

طبعا ما يحدث في الاقتصاد المصري حاليا ـ إن كان هناك ما يمكن أن نطلق عليه اسم الاقتصاد المصري ـ هو نتيجة لعدة أنواع مختلفة من الأسباب:
1-    السبب الأكثر وضوحا حاليا لتأثيره المفاجئ، هو سرقة جورج بوش لنصف احتياطي النقد المصري المحفوظ بالدولار بسبب خفضه لسعر الدولار، مع تسببه في ازدياد أسعار النفط عالميا، وارتفاع أسعار الغذاء عالميا إلى حوالي أربعة أضعاف.. لقد أوضحنا هذا بالتفصيل في مقال "احترس: أنت تمول الحرب الأمريكية على الإسلام"
2-             تدخل البنك الدولي في الاقتصاد المصري، ولا يضع هذا البنك أنفه في اقتصاد أية دولة إلا خربها.
3-    بيع القطاع العام بأرخص الأسعار لنهب العمولات، وإهدار أثمان البيع أو سرقتها بدون استثمارها في إقامة مشروعات جديدة لاستيعاب البطالة ومقاومة احتكار بعض شركات القطاع الخاص.. وإن كان القطاع العام نفسه ومنظومة التعليم بالكتلة، هما السبب الرئيسي في كل الدمار الذي لحق بعقول وشخصيات الشعب المصري في نصف القرن الماضي، بعد تحويله إلى قطيع من المستنسخين الخاملين العالة على الحياة!
4-    أما السبب الجذري والجوهري، فهو وجود حفنة من المرتزقة تحكم مصر منذ الاحتلال الإنجليزي إلى الآن، ليس لديها أي مشروع حضاري حقيقي، وتسببت حماقاتها المتراكمة في تدمير الزراعة والصناعة والتعليم والإعلام والثقافة والأخلاق والقيم في المجتمع، مما جعل كل شيء ينهار، فالإعلام فاحش تسطيحي استهلاكي، والثقافة منحطة وإباحية، والعقل مهان في نظام تعليم ليس إلا مفرخة للبطالة والجريمة، ويستنزف اقتصاد الدولة بلا طائل على حساب صحة المواطن وطعامه، وعباقرتنا يهربون إلى الخارج، وكل شيء نستورده من الخارج حتّى القمح، والأراضي الزراعية تُقتل بالبناء عليها، والصحاري لا تُستصلح ولا تستغل، والتجار يحتكرون السلع ويرفعون الأسعار، والمستثمرون ينهبون القروض ويهربون إلى الخارج، والوزارات والإدارات والمحليات تتعامل بالرشاوى، والمياه والهواء والطعام ملوثة، والمبيدات والأسمدة مسرطنة، والشعب المصري يباد بكل ألوان الأمراض النفسية والجسدية!!.. إن كل ما يحدث الآن وما سيحدث مستقبلا مجرد نتائج لتركة مذهلة من الجرائم التي ارتكبت في حق الوطن منذ وطئه المحتلون إلى الآن، مهما اختلف اسم النظام، ومهما اختلف شكل الحكومة، فالحقيقة أنه لا شيء يتغير إلا إلى الأسوأ، ما دام قادة الثقافة والفكر في مصر هم العلمانيون وكتّاب الأعضاء التناسلية والإخراجية الذين تكلمنا عنهم في مقال: "نظرية العودة إلى الجذور: ثقافة المجارير"
حقا: من جد وجد ومن زرع حصد، ومن ركد فسد، ومن فسد مات وتعفن وتفسخ، وأخذ طريقه إلى مزبلة التاريخ!
***
وقد جاءني رد على المقال يسألني عن ماذا نفعل في هذه الأوضاع المتردية التي وصلت إليها مصر، فأجبت:
لا شيء.. سبق السيف العزل!
العالم يسير بخطوات مجنونة نحو كارثة، تقوده إليها أمريكا وكل من يتبعها من عميان القطيع!
وما يحدث الآن هو نتيجة حتمية لنظم هشة اعتادت أن تعيش متطفلة على عائل دائم، والعائل الآن يتخبط وينهار اقتصاديا ولديه أنيميا تمنعه من منح المعونات الكافية لهذه النظم الطفيلية!
لهذا فليس من المستغرب ضياع آخر دلائل العقل من هذه الأنظمة، فلم يعد لديها ما تخفيه، وهي في سكرة الاحتضار لم تعد تميز بين ما يضمن بقاءها مؤقتا، وبين ما يثير جنون شعوبها سياسيا واقتصاديا ويعجل بزوالها!
وفي ظل ظروف كهذه، وكلما حدث هذا في التاريخ كان أحد الأمور التالية يحدث:
1- تدخل الجيش لإنقاذ الأمور وتغيير الواجهة لإشعار الناس أن تغييرا ما سيحدث.. لكن الحقيقة أن هذا التغيير لا يحدث فعليا، فهو مجرد تغيير أسماء، كما أن أي شخص سيستلم هذه التركة سيجد نفسه عاجزا عن إيجاد أي حل لمشاكلها، وهذه هي بداية الفوضى وعدم استقرار الحكم!
2- انهيار اقتصادي تام، وفقر وبطالة ومجاعة شاملة، وغضب شعبي عارم يؤدي إلى فوضى أكثر سوءا!
3- حرب خارجية من عدو يجدها فرصة سانحة لقطف الثمرة بدون أي ثمن، وفي هذا دمار أوسع وأفدح!

وللأسف: في مثل هذه اللحظات التاريخية الحالكة تبدو الأحلام الوردية ضربا من الجنون.. لا يوجد حل سحري لكل هذه المشاكل المتراكمة منذ أكثر من قرن، وسندفع كلنا الثمن شئنا أم أبينا!
لن نصحو غدا لنجد مجتمعا محتشما تقل فيه الجريمة، وشعبا متحضرا عالي الذائقة مثقفا، وتعليما متطورا، وإعلاما هادفا، وبحثا علميا يجمع علماءنا الهاربين في كل بقاع الأرض، وتقدما صناعيا واكتفاء ذاتيا زراعيا وجيشا قويا.. هذا يحتاج إلى ربع قرن إن بدأنا الآن، وإن ترَكَنا بلطجية أمريكا وأوروبا وإسرائيل نبدأ، واستطعنا التخلص من كلاب الحراسة العلمانية التي تحرس جهلنا وتخلفنا... فإن وصلنا إلى البداية ونحن أنأى ما نكون عنها، فمن سيضمن لنا الصبر إلى 25 عاما على كل هذه الأوضاع المتردية؟
لقد تأخرنا كثيرا.. الدول التي بدأت قبل هذا اليوم بثلاثين عاما كالصين والهند وإندونيسيا وماليزيا وإيران نجحت في أن تفرض نفسها اليوم بقوة على الساحة الدولية، أما نحن فقد حكمنا على أنفسنا بأن نصير حكاية حزينة في فصل مهمل من فصول التاريخ!
فليلطف الله بنا.
***
طبعا كان من المستحيل حينها أن أتوقع حدوث ثورة تونس، التي قلبت المنطقة كلها رأسا على عقب، ولولاها ما حدثت الثورة المصرية.. فالحقيقية أنني كنت يائسا من أي تحرك شعبي في أي دولة عربية، وإن كنت الآن قد فهمت كيف أعطت ثورة تونس للمصريين الأمل، فإني إلى الآن لم أستوعب بعد كيف تحرك الشعب التونسي كله للثأر لمحمد بوعزيزي، وأرى أن هناك معجزة إلهية مباشرة دفعت الأمور في هذا الطريق.
لهذا أحمد الله أن ثورة يناير أنهت تلك الحكاية الحزينة وأطاحت بمبارك وزبانيته لتغلق ذلك الفصل المهمل من فصول تاريخ مصر.. لكن، يظل كل ما قلته في الرد السابق قائما: لقد وصلنا إلى نقطة البداية، ونحتاج ربع قرن على الأقل لإصلاح كل القطاعات المهدمة في مصر، في ظل وضع داخلي هش، يحاول فيه العلمانيون إشعال الفتن بين الجميع: المسلمين والمسيحيين، والسلفيين والصوفيين، وغيرهم، لكي يفتتوا الإجماع الشعبي، ويستطيعوا الخروج بأكبر قدر من المكاسب على قاعدة: فرّق تَسُد.. وفي ظل وضع خارجي أكثر هشاشة، انقسمت فيه السودان، وتكاد تنقسم ليبيا واليمن، وتهددنا دول منابع النيل بتقليص حصتنا من المياه، وسنفقد الكثير من العمالة الخليجية لا محالة بسبب اتجاه الحكومات الخليجية إلى تعيين العاطلين من مواطنيها تفاديا للثورات، وسنفقد الكثير من عائدات السياحة وقناة السويس بسبب المشاكل الاقتصادية العالمية والفوضى في المنطقة.
وفوق كل هذا يظل السؤال قائما: هل ستترك لنا أمريكا وأوروبا وإسرائيل الوقت الكافي لإعادة بناء مصر من جديد؟
لا أقول هذا بالطبع لإحباط أي أحد، ولكني أريد أن نفهم الحقيقة كاملة، لكي نكون على قدر التحدي، ولكي نحلم على قدر عملنا، بدلا من أن يظل كل مصري ينتظر زيادة الأجور وحصاد نتائج الثورة دون أن ينتج شيئا أو يدرك حجم المشاكل التي نحن فيها.
***
وعموما، حتى لا يظن أحد أنني كنت متشائما حتى في أحلك فترات مصر، أترككم مع هذا الرد الذي كتبته في نفس الفترة بعنوان "دوال مثلثية":
لقد وصلنا إلى المرحلة التي لم يعد فيها المعارضون فقط ولا التيارات الإسلامية فقط هم من يهاجم الحكومة.. البسطاء من الشعب جأروا من مصاعب الحياة، والشخصيات العامة من كل اتجاه صارت تنتقد الأوضاع الحالية على الفضائيات ليل نهار.. مستشارون يصرخون من القوانين التي تصدر دون الرجوع إلى المختصين، ومثقفون وشخصيات عامة يتكتلون لوقف بيع الغاز إلى إسرائيل، وأعضاء الحزب الوطني والمحليات في دمياط يهددون بالاستقالة لو تم إنشاء مصنع البتروكيماويات في رأس البر، وأساتذة جامعة حلوان يرفضون أن يتخذ محافظ حلوان مقرا له في الجامعة، بعد القرار العشوائي المفاجئ الذي حول حلوان إلى محافظة بدون أدنى تخطيط، مما جعل محافظها الجديد لا يجد مكانا يدير منه شئون محافظته.... إلخ.
لكن رغم هذا يجب أن نتذكر قوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"
لو فكرنا لحظة في هذا الحديث فسنجد أنه موجه إلى كل إنسان يشعر أن مستقبله القريب مظلم ولا جدوى مما يفعله، فهذا الحديث يخبره أنه حتّى ولو لم يكن هناك من سيأتي بعده ـ لقيام الساعة ـ فعليه أن يغرس الشجرة، فما بالك إن كانت الحياة ستستمر بعده؟
وأنا أرى أن فسيلة الأدب والفكر أكثر إثمارا وأطول عمرا من فسيلة الشجر، فغذاء العقول أطول بقاء من غذاء البطون.. إننا ما زلنا نقرأ حتّى اليوم أفكار السابقين علينا بقرون، بينما ثوت ملايين الأشجار في تلك الفترة.
لهذا أنا أنظر دائما إلى بعيد.. إلى مستقبل ليس شرطا أن أعيشه، ولا يهمني أن أستمتع فيه بجني ثمار الشجرة التي أحاول الآن زراعتها.
إن التاريخ يتبع دالة مثلثية دورية Sinusoidal  تهبط وتعلو، وهبوطها يصنع علوها، وعلوها يصنع هبوطها، وخير لنا أن نكون من أسباب العلو في زمن الهبوط، عن أن نكون من أسباب الهبوط في زمن العلو.. ألست معي في ذلك؟
***
ملحوظة:
لم أكن أنا وحدي من رأى بوادر الانهيار في مصر، فكل جرائد المعارضة تقريبا بل والقنوات الفضائية المصرية والعربية كانت تدق نواقيس الخطر، وكان هناك شبه إجماع على أن الخطر الآن يهدد الدولة المصرية، وليس حكومة نظيف أو نظام مبارك فقط، وذلك بسبب تآكل مؤسسات الدولة وهشاشتها، وهو ما كانت تؤكده التقارير الاقتصادية التي تنشرها الصحف العالمية والمنظمات الدولية.. وقد كان السخط الشعبي في منتهى الوضوح في إضراب 6 إبريل والمظاهرات الرافضة للموقف المصري من حرب غزة، والعمال المعتصمين على رضي مجلس الشعب، وإضرابات الأطباء والصيادلة وأساتذة الجامعات والمحامين وغيرهم، بحيث كان واضحا لأي أعمي أن المفاعل المصري قد تجاوز مرحلة الخطر.. لكن الغريب أن الوحيد الذي لم ينتبه إلى كل هذا هو مبارك وحاشيته المنشغلون في التخطيط للتوريث، وللأسف بدلا من أن يقوم جهاز الأمن القومي وجهاز أمن الدولة بقراءة مؤشرات الواقع وتنبيه الساسة إلى خطورة الأوضاع ونصحهم بتغيير سياساتهم الخاطئة، حدث العكس تماما، وتم تسخير جهاز أمن الدولة لقمع الناس وتعذيبهم وتركيعهم لإرادة الحكومة، ولم يستطع القائمون عليه فهم أي شيء من السيول الهائلة التي تصلهم من المعلومات، وهذا معناه أن جهاز أمن الدولة انحرف مساره بحيث صار جهاز بلطجة يعتمد على العضلات بدلا من المخ، وصارت كل مهمته تنحصر في شعار "كله تمام يا ريس"، بدلا من أن يكون جهاز إنذار يحمي الدولة ومؤسساتها من تداعيات سياساتها الخاطئة داخليا وخارجيا!.. لهذا أرجو أن يكون جهاز الأمن الوطني البديل قد وعى هذا الدرس جيدا، فيتحول إلى جهاز لجمع وتحليل المعلومات وجهاز إنذار مبكر يحمي الحكومة من أخطائها بدلا من أن يبررها، ويكون كالشبح غير المرئي في الدولة، فلا يعتقل أحدا ولا يعذب أحدا، بل وحتى لا يستجوب أحدا، وإنما يجمع المعلومات في الخفاء، وإن وجد تهديدا لأمن الوطن، يقدم القضية جاهزة متكاملة للنيابة لتتولى التحقيق والاستجواب واتخاذ الإجراءات الرادعة.
ونسأل الله أن يكتب الخير كل الخير لمصر وشعبها ولجميع الشعوب العربية والإسلامية.

محمد حمدي غانم
19/4/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر