المتابعون للمدونة

الثلاثاء، 25 يناير 2011

ثقافة استهلاكية

ثقافة استهلاكية

ملحوظة:
تجمّعت نواة هذا المقال من ردودي على مداخلات القراء على قصتي الساخرة "إعلانات يا هوووه".. لهذا سيكون من الأفضل قراءتها أولا، فهي تناقش نفس القضية.

انسف حمامك القديم.. ومطبخك القديم.. وسيارتك القديمة.. وجوالك القديم.. وضميرك القديم أيضا، واشترِ هذا المنتج لتحصل على السعادة الأبدية!
هذا هو شعار الحرب الاستهلاكية التي نعيشها اليوم.
فالحقيقة أننا نعيش واقعا مأساويا يَسِمُ العصر الصناعي بكامله، حيث تستخدم الدعاية بشناعة لتربية أجيال استهلاكية مغيبة عن العقل والضمير، ساخطة لا تشعر بالسعادة والراحة والرضا إلا حينما تمتلك الأجود والأغلى والأفخم، بل وأحيانا لا تهم الجودة بقدر ما يهم الامتلاك نفسه، إذ يقول كل شخص لنفسه: مثلي مثل الآخرين.. أنا لست أقل من فلان وعلان وتان تان وسوبرمان J
لقد قرأت الكثير عن القيم الاستهلاكية لكتاب مختلفين، وهذا أخرجني مبكرا من الغيبوبة التي كنت أعيشها، وجعلني أتحول إلى اعتناق منظومة مضادة من القيم التي ترفض الاستهلاك لمجرد الاستهلاك، فهذا سبب ما نحن فيه من هلاك.
فهذا الإسراف في الاستهلاك سيؤدي إلى هلاك الحياة على سطح الأرض، لأن التلوث الذي تنتجه هذه المصانع لوث البيئة بدرجة تفوق آلية التدوير الطبيعية، كما استنفد غابات ومناجم وحيوات برية ومائية، وكلنا يتابع الآن التحذيرات المخيفة عن ارتفاع حرارة الأرض وانصهار جليد القطبين، كما أن نسب الأمراض والسرطانات صارت مفزعة، إضافة إلى ازدياد معدلات الإصابة بمرض التوحد لدى الأطفال، وكلها أمور لم تعرفها البشرية بهذه الصورة من قبل.
ومن تداعيات هذا الاستهلاك أيضا، أن صار الناس اليوم مؤمنين أن الزواج لا يصح بدون إنفاق عشرات الألوف لشراء كراكيب لا قيمة لها.. هذا إن تجاهلنا الحديث عن باقي الشكليات العقيمة من ذهب وفرش وملابس وحفلات و... و... إلى آخر تلك التعقيدات التي جعلت سن الزواج مأساة حقيقية رغم دعوات رجال الدين المستمرة إلى التخفيف وعدم المغالاة.. والنتيجة أن هناك 6 مليون شاب وفتاة عبروا الخامسة والثلاثين في مصر بدون زواج!!.. لكن النكتة المضحكة المبكية في الأمر أن حتى من نجحوا في امتلاك هذه الكراكيب لم يضمنوا السعادة، بدليل أن ثلث الزيجات الحديثة تنتهي بالطلاق في أول عامين!.. ماذا تتوقع من ناس يبحثون عن الشكليات ونسوا أن يهتموا بجوهرهم؟
لقد صرنا نعيش في عصر تحوّلت فيه الكماليات إلى أساسيات، ويزداد الأمر تعقيدا باستمرار.. العجيب أن كلّ من أناقشهم من الرجال مقتنعون بعدم جدوى معظم الأثاث الذي يشترونه ولكنهم عاجزون عن تحدي أعراف المجتمع.. وللأسف تتبنى النساء الرأي المضاد، ولا يكاد يمر شهر لا أسمع فيه عن زيجة لم تتم بسبب الاختلاف على القائمة أو التنجيد أو هذه التفاهات.. وحين كتبت هذا الكلام كانت عائلتان من بلدتي في السجن وشاب في العناية المركزة بسبب فرن غاز لم يحضره أهل العروسة، مع أنه لم يعد هناك أحد يخبز شيئا أصلا في هذه الأفران!
بالمناسبة: في مدينتي تتحمل المرأة تقريبا نصف تكاليف الزواج، وهذا يجعل أباها يستدين من طوب الأرض لتزويجها بكل تلك الكراكيب التي لا قيمة لها.. لماذا تعطلت عقول هؤلاء البشر عن التفكير؟.. فتش عن الإعلانات!
لكنك إذا قلت هذا، يتهمك البعض بمحاولة...

هضم حقوق المرأة (مع أننا ندعو إلى التخفيف عن كلا الطرفين).
ويقولون أيضا إن ما يأتي رخيصا يذهب رخيصا.. وأنا أرى أن هذا يصور المرأة كسلعة، ناهيك عن أن ثلث الزيجات ينهار في أول عامين رغم كل تلك التكاليف، وتؤدي القائمة والمؤخر إلى مشاكل وقضايا في المحاكم وفي النهاية، لا تحصل المرأة على شيء سوى لقب مطلقة ومرارة التجربة، وكراكيب لا تستطيع بيعها بعد ذلك إلا برخص التراب!
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزوج المرأة للرجل بآية يحفظها من كتاب الله يعلمها لها، وهذا أغلى من أي مهر وعفش وذهب وعك يلهث الناس خلفه هذه الأيام.
وكل من أعرفهم من الرجال يرددون أمامي مقولة: القائمة والمؤخر لا يعجزان رجلا يريد التخلص من زوجته، فهو قادر على تنغص حياتها إلى أن تطلب الخلع وتتنازل عن كل شيء، وهذا الكلام في حد ذاته يعني أنهم لا يعرفون شيئا عن شرع الله والحقوق التي كفلها للمرأة.. لكن الآباء حين يزوجون بناتهم ينظرون إلى الضمانات الورقية والمادية، ويهملون هذه النقطة الجوهرية تماما!
إذن فنحن في حاجة إلى إعادة تربية هذا الجيل الاستهلاكي الساذج الذي يظن أن الممتلكات أغلى من الأخلاق وحسن العشرة ولذة احتمال المشقة معا في سبيل هدف مشترك.. وعلينا تصحيح فهم الناس لمقولة: ما يأتِ رخيصا يذهبْ رخيصا.. فالشاب والشابة في أغلب الأحيان يعتمدان على مساهمة الأهل في تكاليف الزواج، لهذا يحصلان على شقة متكاملة مرفهة رخيصا، والنتيجة أنهما يستسهلان هدمها رخيصا، بينما لو بدآ معا وعانيا مشقة التوفير لشراء الأشياء بالتدريج وشعرا ببهجة الحصول عليها، فلن يكون من السهل عليهما التخلص من هذه الخبرة المشتركة والكفاح المرير بسهولة.. وهل الأجدى أن ينتظر الشاب عشر سنوات إلى أن يوفر كل النقود ليبدأ الزواج بكل شيء، أم أن يتزوج مبكرا بأقل الإمكانيات ويحصل على كل شيء بالتدريج في مشواره مع شريكة الحياة، خاصة مع التصاعد السريع في أسعار الأخشاب والأقطان والذهب والسلع بل وحتى الغذاء؟!
الواقع حولنا يجيب.
***
ثم إني أذهب أبعد من كل هذا، فأقول إن كل رجل وامرأة يستدينان لشراء أطباق وفناجين ومراتب وأثاث وأجهزة كهربية والكتروونية لا يحتاجانها فعليا، يحملان في عنقهما دماء ضحايا المسلمين في كلّ بقعة من بقاع الأرض، لأن معظم هذه السلع تستورد من أعدائنا ليصنعوا بنقودنا الأسلحة التي تقتلنا، على حساب انهيار اقتصادنا وصناعتنا وتعليمنا والبحث العلمي في بلادنا، بل وحتّى سوق الأدب والفكر، ليتبقى المجال خصبا لثقافة استهلاكية تافهة تخاطب الجسد بملذاته الزائلة.. ثقافة من سيربح المليون ولعبة الحياة وغيرها من ألعاب القمار العلنية التي لا يعاقب عليها القانون.
وهكذا، وبهذه الطريقة العجيبة في الاستهلاك الذي يفوق الإنتاج المحلي، يضمن كل زوجين لأبنائهما البطالة قبل أن يلداهم!.. لهذا ربما يكون من الأدق أن نغير الشعار الإعلاني إلى: اشتر سلعة مستوردة، وانسف مستقبل ابنك قبل أن يولد!
لكل هذا أقول: أنقذوا عقول أبنائكم مبكرا من هذا النوع من غسيل المخ الاستهلاكي، بالتدخل في تربيتهم فهذا دوركم، ولا تتركوهم فريسة للدعايات وبرامج القمار المقنّع، وشعارات نسف القديم واللهاث خلف الأحدث.. أنتم لستم مجرد ممولين لجشع من يشكلون عقول وضمائر أبنائكم في التلفاز والشارع والمدرسة.. أنتم المسئول الأول عن تربية هؤلاء الأبناء بتنشئة عقولهم على التفكير العلمي العملي، وضمائرهم على المثل والأخلاق الإسلامية، وأهمها القناعة والرضا وعدم الإسراف.. أمّا أن تكونوا مجرد ممولين لأبنائكم ليستهلكوا ما لا قيمة له، لتصب الثروات في النهاية في أيدي أعدائنا، فهذا ما يبدو لي كمن يبيع أخراه ودنياه بدنيا غيره.. وانظروا إلى الأقساط والديون والجمعيات و.. و.. التي يتورط فيها الجميع لشراء هذه السلع، وما يصاحبها من عبء نفسي وسخط على الحكومة والمجتمع والحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر