المتابعون للمدونة

الاثنين، 20 ديسمبر 2010

على صـدر الزمان (4)

على صـدر الزمان
-4-

قالَ لها وهو يغوصُ في عينيها خلفَ لآلئِ الدرّ:

-         لو كنّا آخَرِين!.. لو كنّا نرَى أنفسَنا مِن خارجِنا!.. لهذا أحببْتُك.

-         [بتهيب]: ألن تحبَّ غيري قطّ؟

-         لماذا تقولينَ هذا؟

-         أخافُ أن تلفتَكَ عنّي فتاةٌ أجملُ منّي.

-         هذه النقطةُ تُخيفُكِ دومًا.. يا لي من تعِس!.. لماذا إلى الآنِ لم أخبِرْكِ، أنني أراكِ أجمـلَ مَن على ظهـرِ الأرضِ قاطبةً؟.. ولكن هل هذا هو الحب حقا؟.. أليس الأجدر بك أن تخافي، لو قلت لك إنني أحبُكِ لأنكِ أجملُ من رأيتُ في حياتي، لأنني في أول لحظة سأرى فيها من تفوقك جمالا، سأذهب وأقول لها: إنني أحبُكِ لأنكِ أجملُ من رأيتُ في حياتي؟!

-         [بدلال]: النساءُ تُحبُّ مَن يخدعُهنّ!

-         [مبتسمًا]: أرجو ألا يخدعْنَ مَن يُحبُّهنّ!

-         أخافُ أن تَعدوَ عينَكَ عنّي إلى أخرى.

-         يا صغيرتي: إن الحبَّ سرُّ الأرواح وليس سر الوجوه.. وما الوجوه إلا بطاقات تعارف أولية، وليست الشخص ولا الشخصية.

-         أتدعي أن الرجال لا يحبون جمال النساء؟

-         لم أقل هذا.. بل إن الرجل لا يستطيع أن يغفر للمرأة ألا تكون جميلة.. وكما قال طاغور: إن جمال المرأة هو الذي يغفر لها تفاهتها وسذاجتها!

-   [صاحت بغيظ]: يا سلام؟.. أيهما الأكثر تفاهة في نظرك: المرأة التي لا تهتم إلا بشكلها وزينتها، أم من يسيل لعابهم وراءها من الرجال؟

-   [مبتسما]: الجمال يجذب العين والقلب، والقبح ينفرهما.. والعقل يحكم الهوى، والخُلُق يهذب الطبع، وبقدرهما يقدّر الرجل والمرأة على السواء.

تفكرت في كلامه لحظة، ثم سألته بدلال:

-         إذن فلن تميل عني إلى أخرى يوما؟

-         إنهنَّ كُنَّ أمامي بالفعلِ وما زِلْن.. فلماذا لم يحدثْ ذلكِ إلى الآن؟

-         ربّما يَدخلُ إلى قلبِكَ المللُ فيما بعد.

-         ستكونينَ أنتِ السببَ لا أنا.

-         أنا؟!

-         باستمرارِكِ في الشكِّ الذي يُبعدُنا.

أطرقَتْ لحظةً وقالت:

-         أنا آسفة.

-         [برفق]: لا تأسفي يا ملاكي.. أنا الذي لم أستطِعْ إيصالَ ما يَضْطرمُ في داخلي من لهيبِ الحبِّ إليكِ.. على فكرة: إنني أرى نفسي أقلَّ الرجالِ وسامةً، فلماذا اختَرْتِني أنتِ؟

-         أنا أراكَ أجملَ الرجال.

-         سأبدأُ في الشّكّ!

-         الشّكّ؟!

-         إمّا أنّك تخدعينَني ـ مجاملةً أو مبالغة ـ وإمّا أنّكِ لا تَرَيْنَ جيّدًا، ربّما بتأثيرِ منظارِ الحبِّ الأعمى!

-         لماذا تقولُ ذلك؟

-         لأنّي أحبُّ الحقائقَ كما هي، مهما كانت مُخالِفةً لرغائبِنا.

-         الكلمةُ الطّيّبةُ صدقة، وبها تتفتّحُ زهورُ النفسِ للحياة.

-         أعرف.. ولكنَّ هذا لا يمنعُ الصدقةَ من أن تكونَ صادقة، حتّى لا نخافَها يوما.

-         كيفُ تريدُها صادقةً وجميلة؟

-         هذه هي المتوازنةُ الصعبة.. وإن كنـتُ عن نفسي مؤمنًا، بأنّه ليسَتْ كلُّ الحقائقِ مُؤلمة.

-         أعطِني مثالا.

-         خذي عندَكِ مثلا هذه الحقيقـة: إنّني لا أرى الأشيـاءَ بقلبي فقط.. أراها أيضا بعقلي وضميري.. لقد اخترْتُك: فإمّا أنْ أكونَ راجحَ العقلِ مُحسنَ الاختيار، إذن فلنْ أَنْدم.. و إمّا أن أكونَ تافهًا سطحيًّا مُذبذبًا، سَرعـانَ ما سأتراجعُ عنكِ، إذن فلن تندمي.. أليسِتْ حقيقةً جميلة؟

-         ليتني أراها كذلك.

-         إنّكِ إذن تُتحفينني بهـذه الحقيقة: إمّا أنّك لا تَثقينَ بنفسِك، وإمّا أنّك لا تثقينَ بي.. لا أعتقـدُ أنها حقيقةٌ جميلةٌ أبدا.

-         أشعرُ أنّكَ كثيرٌ عليّ!

-         [ضاحكًا]: أنا مستعدٌّ أنْ أكونَ لكِ على أجزاء، على شرطِ ألا يكونَ كلُّ جزءٍ منها في كيسٍ بلاستيكيّ!

ثم قال بجدّيّة:

-         حسنًا.. سأقولُ لكِ الخلاصة: إنّ النساءَ عندي على أربعةِ أشكال: أنثى أحترمُ أخلاقَها، وأنثى أثقُ برجاحةِ عقلِها، وأنثى يُسعدني جمالُها.

وصمتَ لحظةً فسألَتْه:

-         هذه ثلاثةٌ فهاتِ الرّابعة.

-         [في شغف]: وأنثى هي أنتِ: أهيمُ بها وأتدلّهُ بعشقِها.. أحترمُ أخلاقَك، وأثقُ برجاحةِ عقلِك، ويُبهرُني جمالُك.. أحبُّ طباعَك.. نظرتَكِ للأمور.. طموحَك.. أحلامَك.. تَوافُقَكِ معي.. أشيـاءُ كثيرةٌ ينبغي أن تشعري بهـا.. وهذا لا يشترطُ أن تكوني أجملَ النساء.. يكفيني في الجمالِ خمسةٌ وثمانونَ بالمئةِ مما يقيسُ به الناسُ الجمال.. وفى الثقافةِ تسعونَ بالمئةِ ممّا أقيسُ به الثقافة.. أمّا في الأخلاقِ فلا يُرضيني أقلُّ من تسعـةٍ وتسعينَ بالمئةِ ممّا يقيسُ به الدينُ الأخلاق.

-         إيه.. على رِسْلِك!.. إنّكَ تزدادُ تشدّدًا مِن بندٍ إلى آخر.. خاصّةً بندَ الأخلاق.

-         إن الأخلاقَ تنبعُ من الضمير، والضميرَ يحكمُ العقل، والعقلَ يحكمُ القلب.. هذا ما يضمنُ لي الوفاءَ الأبديَّ ضدَّ تعرقلِ العقلِ وتَقلّبِ القلب.

-         وما هو الضمير؟.. ما الذي يحكمُه إذن؟

-         تحكمُه النفسُ اللوّامة.. الرُّوحُ الطّيّبة.. الوازعُ الديني.. وكلُّ ما يدفعُنا لمقاومةِ جموحِ شهواتِنا وتدنّي رغائبِنا.

صمتَتْ لحظةً وقالت:

-         أتصدّق؟.. إنّكَ تجعلُني أعيدُ اكتشافَ الأشياءِ من جديد.

-         وهل صارتْ أجملَ أم أقبح؟

-      صارتْ فقط.. إنني لم أنتبهْ لها من قبلُ حتّى أطلقَ عليها الأحكام.. كانت باهتةً في عقـلي، أشباحَ ما رآه الناسُ قبلي.. لكـأنكَ تُمسِكُ بيدي، وتقودُني داخلَ نفسي، لتكشفَ لي عمّا خارجَها بما داخلَها.

-         أرجو ألا تَندمي على ذلكِ يوما.

-         أرجو ألا تملَّ مِن ذلكَ أبدا!

*****
ابتسم قائلا:

-         هل قلبُكِ قويّ.. يَحتمل؟

-         [بتوجس]: ماذا وراءَكَ؟

-         [مهوّلا]: إنَ لديَّ الكثيرَ منَ الأفكارِ التي ستُرعبُك.

-         اللهمّ اجعلْه خَيْرا.

-         خُذي عِنْدَك مثلا: لقد اكتشفْتُ فجأةً في نفسي مَقدرةً فريدة، تجعلُني أستطيعُ أن أحـبَّ دستةَ نسـاءٍ ـ على الأقلّ ـ حبًّا عميقًا صادقًا في نفسِ الوقت!

-         [في تهديد]: هكذا؟!.. واضحٌ أنّكَ اكتشفْتَ في نفسِكَ أيضًا، رغبةً دفينةً في الانتحار!

-         [تنحنحَ وهو يتحسّسُ رقبتَه]: لا.. ليس إلى هذه الدرجة!

-         على العمومِ واصِلْ، وسنكتشفُ ذلكَ بعدَ قليل!

-         يَعني: مثلا الأبُ والأمُّ يحبّانِ كلا مِن أبنائِهما، حبًّا كامًلا مُستقلا لا يتجزأ، فلا يُغنى واحدٌ منَ الأبناءِ عن فُقدانِ آخر، ولا يُنقصُ حبُّ واحدٍ من الأبناءِ من حبِّ آخر.. وهكذا.

-         طبعًا طبعًا.. وعلى هذا فإنّكَ تريدُ أن (تتبنّى) عددًا من الفتياتِ على نفسِ المنوال.. قلتَ لي كمْ عددُهنّ؟

-         احم.. دستة.. على الأقلّ!

-         على الأقل؟!.. إم!

-         يَعني.. كلُّ فتاةٍ سيكونُ لهـا جمالُهـا المختلـف.. طبـاعُها.. شخصيّتُها المميّزة.. وبالتـالي سيكونُ نوعُ وعمقُ وطريقةُ حبّي لها مُختلفة.

-         وَ... أنتَ تنوي بالطبعِ الاستغراقَ في ذلك؟

-         [على الفور]: أنا؟!.. مَن قال ذلك؟!.. مطلقا.

-         وما الذي يمنعُك؟

-         [تحسّسَ رقبَتَه]: شيءٌ واحدٌ فقط اسمُه... الوفاء.. لقد أحببْتُك، إذن فقد اكتفى قلبي، وعهـدُ الوفـاءِ الذي قطعْتُه على رقبتي.. أَ أقصدُ على نفسي، يَمنعُني منَ التفكيرِ في سواك.

-         [ضحكت]: يا لكَ مِن مُخادعٍ ماكر!

-         [بجدية]: على العكـس.. إنَّ مُشكلتي الحقّةَ تكـمنُ فـي أنّي مستقيمٌ مباشر.. إنني أحيانًا أكونُ صريحًا لدرجةِ العُنف، وأحيانًا لدرجةِ الوقاحة، وأحيانا لدرجةِ القسوة، وأحيانًا لدرجةِ التجريح.. ليتني أستطيعُ أن أكونَ مُخادعًا، فأنا أخافُ أن تُفقدَني صراحتي الزائدةُ مَن أحبّ.

-         لا تَخَفْ.. إنَّ مَن يُحبُّكَ حقًّا، سيحبُّ صراحَتَكَ ضمنيّا، وسيقبلُكَ على علاّتِك.

ثم قالت فجأة:

-         هَه.. لمْ تقُلْ لي: كيفَ يَمنعُكَ الوفاءُ عن حبِّ البقيةِ الباقيةِ من نِصابِ قلبِكَ النصّاب؟

-         [مبتسمًا]: هذا يعودُ إلى الآليّةِ التي يحدثُ بها الحبّ.. أتدرينَ كيف؟.. إنَّ العينَ تنجـذب، والقلـبَ يتعلّـق، والعقلَ يُوافق، والأحلامَ تنطلق.. وحينما تشغلُ هذه الفتاةُ بالَ هذا الفتى، يتحوّلُ الانجذابُ إلى اهتمام، والاهتمامُ إلى تعلّق، والتعلّقُ إلى شوق، والشوقُ إلى حب.. إنّ كلَّ هذه المتسلسلةِ تتوقّفُ عندي ببساطة، بمجرّدِ تأمينِ زنادِ الوفـاء.. إنّه هو الذي يمنعُني منَ الانجـذابِ والاهتمامِ والتعلّقِ والشوقِ والحبّ، مكتفيًا ـ وأمري إلى الله ـ بفتاةٍ واحدةٍ يتيمة، تحتكرُني إلى الأبد.

-         [بتهديد]: هيه.. تقولُها كأنّكَ نادم!

-         [نافيًا بسرعة]: أنا؟.. مستحيل!.. لقد أخبرتُكِ من قبل، أنني أفكّرُ بقلبي كما أحبُّ بعقلي.

-       ما معنى هذه (اللخبطة)؟

-         معناها أنّ العمرَ ليسَ بَعْزَقْة!

*****

على صدرِ الزّمان: ج1، ج2، ج3، ج5، ج6

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر