المتابعون للمدونة

الاثنين، 18 أكتوبر 2010

خليجُ الأحلام الماسيّ

خليـجُ الأحــلام المــاســيّ

وحيدًا كان، وربّما كان سعيدا.
لم يكنْ يعرفُ أنَّ السعادةَ الحقّةَ هناك، تدبُّ على قدمينِ كمسّاتِ النورِ لأوراقِ الزَّهَر، ولا أنَّ لها عينينِ بلونِ الغدِ في لحظاتِ الحُلم، وشفتين... لو رأى بسمةً واحدة!
لم يكنْ يعرف، ولو عرفَ لما طابَ له عيشٌ بدونِها.
*****
رآها.
متى؟.. أين؟.. كيف؟
تداخلتِ الإجاباتُ في لحظةٍ من المجهول، لتصنعَ حُكمًا من أحكامِ القدر.
فهمَ فجأةً معنى كلِّ ما قرأه وسخِرَ منه، فلقد حدثَ له مثلُه.
احتدمَ نبضُه.. ذهلَ عقلُه.. غرِقتْ عيناه في عينيها دهرًا عمرُه ثانية!
رفرفتْ على ملامِحِها ابتسامةٌ خائفة، عرفَ كيفَ يغزلُ منها الغد.
ثمَّ فجأةً انتهى عمرٌ وبدأ عمر.
هكذا بمنتهى البساطة.. نفسُ البساطةِ الّتي احتلّت بها قلبَه.
*****
جذبتْه نظراتُ عينيها المشدوهة.
كان قلبُها مضبوطًا على موجتِه، وقد راحَ يستقبلُ إشاراتِ قلبِه.
قالَ لها، وعيناه لا تبرحانِ عينيها:
-    إنّكَ تستطيعينَ قتلي.
تلعثمتْ، وابتسمتْ ابتسامةً خجلى، قبلَ أنْ تتمتمَ بارتباك:
-    كَـ.. كيف؟
-    لو امتلكْتِ القسوةَ الكافيةَ لتهربي منّي الآن.
-    إنّني لا أعرفُك.
-    وأنا كذلك.. ولكنَّ ذلكِ لن يدومَ طويلا.
-    هل تعتقدُ أنّي فتاةٌ سهلة؟
-    أنا أيضًا لستُ رجلا سهلا.. نتساوى في ذلك.
ضحكتْ وسألته:
-    ماذا تعني بأنّكَ لستَ رجلا سهلا؟.. هل تحاولُ النساءُ التغريرَ بكَ وأنتَ صامد؟

-    لستُ أنا وحدي.. إنَّ مهمّتَهنَّ أن يحاولْنَ التغريرَ بأيِّ رجلٍ يرينَه.. ومنذُ أوّلِ امرأةٍ في الوجود.
-    يا لكم معشرَ الرجالِ من انتهازيّين!.. إنكم ما انفككتم تضخّمونَ حادثةَ التفاحةِ لتحاكموا بها كلَّ نساءِ الأرض!.. مع أنّها حادثةٌ واحدةٌ فرديّة.
-    (حادثة)؟.. امرأةٌ أخرجتْ رجلا من الجنّة، وتُسمّينَها (حادثة)؟!
-    أخرجتْه من الجنّةِ نعم، ولكنّها منحتْه الحبَّ والأسرةَ والحياة.. لا تُنكرْ أنّها بذلكَ كانت سببًا في وجودِنا ـ أنا وأنتَ وكلَّ البشر.. دعْكَ ممنْ يقولونَ إنها سببُ حرمانِنا من الجنّة، فقد شاءَ اللهُ تعالى ألا يدخلنا إليها بدونِ اختبار.
-    ....
-    لماذا أنتَ صامت؟
-    أفكّرُ في كلامِك.
-    أهو عميقٌ إلى هذا الحدّ؟
-    لقد توقّفتُ عندَ تعبيرٍ واحدٍ فيه، وتمنّيتُ أن يتوقّفَ عندَه الزمن.
-    أيِّ تعبير؟
-    حينما قُلتِ: "أنا وأنتَ".. لم أصدّقْ أنَّ اللغةَ تستطيعُ أن تمزجَنا هكذا بمنتهى السهولة.
خجلتْ واضطربت، وتذكّرتْ فجأةً أنها لا تعرفُه، وأنّه اجتذبَها إلى مناقشةٍ طويلةٍ رغمًا عنها، فقالت:
-    يبدو أنّكَ نجحتَ في التغريرِ بي.. أعتقدُ أنَّ حديثَكَ شيّق، ولكنّي آسفة.. هل تسمحُ لي بالانصراف؟
-    هل تريدينَ ذلكِ حقًّا؟
-    ارتبكَتْ لحظة، ثمَّ قالتْ بحزمٍ يبدو جليًّا أنّه مُصطنع:
-    نعم.
-    أعرفُ أنّكِ لا تكذبين، ومع هذا لستُ غاضبًا.
-    .........!
-    هذه (نعم) عقلِك، وأريدُ أن أعرفَ كلمةَ قلبِك.. هل تريدُ يا قلبَها الانصراف حقًّا؟
سحرتْها كلماتُه، وخفقَ قلبُها.. همّتْ بالإجابة، ولكنّه أشارَ لها قائلا:
-    لا تحاولي.. هو الّذي أجاب.. أتدرينَ كيف؟
فهفهتْ بتلعثم:
-    كَك.. كيف؟
-    فضحتْكِ عيناك.. حينما خفقَ قلبُك، التمعتْ فيهما آلافُ أقواسِ قزح، لها أجملُ ألوانِ الطيف، وأسرعَتْ تفرُّ إلى الدنيا لتملأَها بهاءً وضياء.
ابتسمتْ في خجلٍ وأطرقَتْ.
سألَها بتردّد:
-    أنصحُكِ بشيءٍ لا أريدُكِ أن تنفّذيه؟
ضحكتْ في دهشةٍ وقالت:
-    قل.. لشدَّ ما أريدُ معرفةَ هذه النصيحةِ المُلغزة!
-    ارتدي منظارًا أسودَ من الآنِ فصاعدا، فعيناكِ أخطرُ على الرجالِ من الرصاصاتِ والقنابلِ وجيوشِ الأرض.
-    إم.. ولكنَّ هذا سيحرمُكَ من أن تقرأَ فيهما ما أخفيه.
-    حينما يعرفُ قلبي لغةَ قلبِك، فسيتخاطبانِ ولو فصلَتْ بينَهما المسافات.
أطرقَتْ لحظةً خجلى، وطالَ صمتُها فسألَها:
-    هل ما زلتِ تودّينَ الانصراف؟
أرادتْ أن تهتفَ نعم، فوجدتْ شفتيها تتمتمانِ بلا إرادة:
-    لا.
-    ولكنّي أنا الّذي أطالبُكِ بالانصراف!
رفعتْ إليه عينينِ مندهشتين، فقال:
-    لا أريدُ أن يجعلَكِ عقلُكِ تندمينَ حينما تخلينَ إلى نفسِك، وتتساءلين: "مَن هذا الّذي غرّرَ بي، وسرقَ منّي لحظاتي رغمًا عنّي؟".
-    عجيبٌ من رجلٍ أن يقولَ ذلك.[1]
-    لماذا؟.. هل ظننْتِ أنّني ذئبٌ أخدعُ قلوبَ النساء؟.. أقولُ لكِ شيئًا ربما لا تصدّقينَه؟
-    قُل.
-    إنّكِ أوّلُ فتاةٍ أحادثُها على هذا النحو.. وكلُّ كلمةٍ قُلتُها لكِ هي وليدةُ لحظتِها، لم أقلْها لفتاةٍ قبلَك، ولو في خيالي.
قالتْ بحياء:
-    إنّني أميلُ إلى تصديقِك.
-    لماذا؟
-    لا أدري.. اسألْ قلبي.. ألستَ خبيرًا في انتزاعِ الاعترافاتِ منه؟
-    إنّه يعترفُ بأشياءَ كثيرة، ولكنَّ شيئًا واحدًا منها هو الّذي يستوقفُني.
-    ما هو؟
-    إنّه خائف.. يدقُّ بحذرٍ ويحسبُ الدّقةَ وراءَ الدقّة.
-    ليسَ الخوفَ الّذي تعرفُه.. فلو كان مرعوبًا لهرولَ في عَدْوِه، وتهاربَتْ منه دقّاتُه.
-    أيُّ خوفٍ هو إذن؟
-    الخوفُ الجميل.
-    .........!
-    خوفُ اللحظةِ الجميلةِ من اللحظةِ التاليةِ المجهولة.. إنّه يدقُّ ببطْء، لأنّه يريدُ الزمنَ أن يمضيَ ببطء.
-    يُمكنُنا أن ننسخَ هذه اللحظةَ الجميلةَ لملايينِ ملايينِ المرّات.. لو شئتِ حتّى، يُمكنُنا ألا نفعلَ شيئًا آخرَ في عُمرِنا سوى أن ننسخَ هذه اللحظة.
سألتْه بتلهّفٍ غلّفتْه بالدلال:
-    وكيفَ يُمكنُ ذلك؟
-    ألا تعلمينَ أنّي ساحر؟
-    ساحر؟.. أنت؟
-    إنَّ معي كلَّ ما يلزمُني من أدواتِ السّحر.. عندي بلّورتانِ سحريّتانِ، حينما أنظرُ فيهما أرى الغد، وأعيشُ أجملَ لحظاتِ الماضي.. وحينما أتمنّى أن يتوقّفَ الزمنُ يتوقّفُ الزمن.. وحينما أتمنّى أن يمضي....
-    ماذا يفعل؟
-    للأسف.. يُخالفُني ولا يمضي، فمشاهدةُ البلّورتينِ متعةٌ جمّة، والعيشُ في أحلامِهما وذكرياتِهما أذهبُ للعقلِ من أعتى خمر.
-    لم تقُلْ لي بعدُ أينَ هما بلّورتاكَ هاتان.
-    يا لكِ من غافلة!.. تملِكينَهما ولا تدرين؟
-    أملكُهما؟
-    عيناك.. ألا تنظرينَ في المرآةِ أبدًا لتعرفي أيّ عينينِ تملِكين؟
تصاعدتْ دماءُ الخجلِ الملتهبةُ إلى وجنتيها، وأحسّتْ بسعادةٍ غامرةٍ لوجدانِها كلِّه، فقالتْ بارتباك:
-    بل.. بل كلامُكَ أنتَ أذهبُ للعقلِ من أعتى أعتى خمر.
-    خوفٌ من نوعٍ آخر؟
-    ليتني استطعْتُ أن أخافَ منكَ أفضلَ من أن تتلاعبَ بي هكذا.
-    لقد طلبْتُ منكِ الانصرافَ ولم تنصرفي.
-    لعبْتَها بذكاء.. أمسكْتَ بيديكَ كلَّ الخيوط، وطلبْتَ منّي أن أبتعد.
-    ماذا تريدينَ أن تعرفي؟
-    ما يؤكّدُ لي حينما أخلو إلى نفسي، أنَّ هذه اللحظةَ حقيقةٌ لا وهمَ فيها.
-    هل ظننْتِ أنّي سأتنازلُ عنكِ هكذا بمنتهى البساطة؟.. أتعتقدينَ أنَّ مصادفةً كهذه تتكرّرُ في العمرِ أكثرَ من مرّة[2]؟
-    ............
-    بدأَ المللُ يصيبُك؟
ابتسَمَتْ وقالتْ:
-    بل أريدُ أن أظلَّ واعيةً، حتّى لا تجرفَني في محاورةٍ من محاوراتِك، لأكتشفَ أنَّ العمرَ مضى، ونحنُ ما زلنا في موضعِنا.
-    ما أحلاه من عمر!
صمتتْ واكتفتْ بهزِّ كتفيها.
ضحكَ وقال:
-    واضحٌ فعلا أنّكِ مصرّةٌ على الاحتفاظِ بوعيِك!.. حسنًا.. فلنتكلّمْ بلغةِ الحقائق.. لَيَحْكِ كلٌّ منّا للآخرِ كلَّ شيءٍ عن نفسِه.. بمنتهى الصدقِ والأمانة.. ما رأيُك؟
ابتسمتْ بخجلٍ وهمستْ:
-    من منّا سيبدأ؟
-    مُريني.
وابتدأَ بينَهما كلامٌ لا ينتهي.
*****
معًا كانا، وحتمًا كانا سعيدين.
لمْ يشكّا لحظةً واحدة، أنَّ السعادةَ الحقّةَ هي الّتي يعيشانِها، ولا أنّه لا يوجدُ ما يمكنُ أن يفوقَها من أنواعِ السعادة.
وكما تعانقَ قلباهما، كما تعانقَتْ عيونُهما، تعانقَ حُلماهما وذابا.
رسما الغدَ على أوراقِ الشجر.. على أجنحةِ الطيور.. على واجهاتِ المحلّاتِ الّتي تعكسُ ابتسامتيهما.. على ألوانِ السيّاراتِ الّتي تتراقصُ حولَهما.
كانَ عمرُ لقائِهما يُحسبُ بالدقائق، وعُمرُ حبِّهما يُحسبُ بملايينِ القُرون.
*****
كانت المرّةُ الثانيةُ الّتي رآها فيها في بيتِ أسرتِها، والمرّةُ الثالثةُ حينما وضعَ دُبلتَه في إصبعِها.
كانت الدنيا تضحك، والأحلامُ تتحقّقُ بنعومةِ الانزلاقِ على الحرير، والسعادةُ تنتشرُ حولَهما كفَقّاعاتِ مرحة، يُبعثرُها الهواءُ فتتراقص، وتنعكسُ عليها التماعاتُ أعينِهما بالحب، وكلّما انفجرَتْ فقّاعة، نبتَتْ من شظاياها ألفُ فقّاعة.
*****
وكلّما تعمّقا في معرفتِهما أكثر، تعمّقَ حبُّهما أكثر.
قالَ لها وهو يحلم:
-    أريدُ أن أبني لكِ قصرًا من المرمر، قِبابُه من فضّة، وأبراجُه من ذهب.
-    هل تعتقدُ أنّي أقدّمُ التنازلات؟
-    .......؟!
-    بعدَ أن أسكنْتَني في مملكةِ قلبِك، تريدُ أن تضعني في مكانٍ متواضعٍ كهذا؟
*****
على خليجِ الأحـلامِ المـاسيِّ سـارا، يُـداعبُ أقدامَهما مَـوجُـه اللازورديّ، وتشاكسُهما نسماتُه اللعوب، ويجذبُهما أفقُه الّذي بلا حدود.
لم تكنِ الدنيا قد طرحتْ مشاكلَها، فبدونِ هذه المشاكلِ لن تكونَ دنيا.
ولكنَّ نظرةَ تفاؤلٍ في عينِ أحدِهما، وبسمةً مُشجّعةً في ثَغرِه، كانتا كافيتينِ جدًّا لتذويبِ أصلبِ المشاكلِ في الحال.
*****
سألتْه في دلال:
-    هل ستحبُّ غيري يومًا؟
قالَ في ابتسامة:
-    أعطيني قلبي أولا، حتّى أعرفَ علاما ينتوي.
-    ها ها.. يا مكّار!.. أعطيه لكَ حتّى تأخذَه وتهرُب؟
-    أينَ أهرُب؟.. حبُّكِ الدربُ وعيناكِ المدى.. شَعرُكِ الليلُ ووجنتاكِ النهار.. قُربُكِ جنّتي والبعدُ نار.. لن يكونَ بُعدي عنكَ إلا مزيدًا من الارتحالِ فيك.
-    آها.. أرى أنّكَ درستَ التفاصيلَ جيّدًا.. كنتَ تخطّطُ للفرارِ بالفعل.
ضحكَ قائلا:
-    ذكريني أن أقترحَ على من يَعنيه الأمرُ، أن تصيرَ دُبلةُ الخِطبةِ قيدًا على شاكلةِ قيودِ الشرطة!
-    أتظنُّ أنّكَ تمزح؟.. تفضّل.
وأخرجتْ من حقيبةِ يدَها حِليةً صغيرة فضّيةً اللون، على شكلِ قيد، محفورٌ على كلِّ سوارٍ من سواريه اسمُ أحدهما!
وانفجرا ضاحكينِ معًا في مرح.
*****
وحتّى يكونَ (القيدُ) أبديًّا، كتبا الكتاب.
وبهذا أضيفَ للدنيا كوكبانِ جديدان، يدورٌ كلٌّ منهما في فَلَكِ الآخر، ويملآنِ سماءَ المحبّينَ أَلَقا.
*****
لم تكنِ الدنيا قد طرحتْ مشاكلَها، فبدونِ هذه المشاكلِ لن تكونَ دنيا.
ولكنَّ مشاكلَهما تزايدَتْ يومًا عن يوم.
حلمانِ في بدئهما، شابانِ في مواجهةٍ ظروفٍ اجتماعيّةٍ ومادّيّةٍ لا ترحم، عُصفورانِ أخضرا الأجنحة، يغنيانِ وسطَ العاصفة.
لو كانا هما فقط، لقهرَ غناؤهما ألفَ عاصفةٍ وعاصفة.
صحيحٌ أنَّ الحبَّ عَلاقةٌ فرديّة تربطُ قلبين، ولكنَّ الزواجَ عَلاقةٌ اجتماعيّةٌ تربطُ عائلتين.
هنا تكمنُ المشكلة.
*****
لم تكنِ الدنيا قد طرحتْ مشاكلَها، فبدونِ هذه المشاكلِ لن تكونَ دنيا.
ولكنَّ مشاكلَهما تزايدَتْ حتّى صارتِ الدنيا أكثرَ من دنيا!
لم تكنْ نظرةُ التفاؤلِ قد غابتْ عن أعينِِهما، ولا بسمةُ التشجيعِ قد غاضتْ في ثَغرِيهما.
ولكنّهما لم تَعودا كافيتين.
*****
ثمّ ظهرَ ذلكَ الثّريّ.
صيّادٌ في عمرِ شجرةِ الجميز، يريدُ أن يتزوجَ فراشةً في عمرِ أحلامِ الزهور.
حاوٍ، بهلوان، صبغَ وجهَه بلونِ النقودِ ليخفيَ تجاعيدَه، يُخرجُ من قَبّعتِه المجوهراتِ الباهظةَ والسيّاراتِ الفارهة، والشيكاتِ الممهورةَ بالأقلامِ الذهبيّة.
وصفقَ المتفرّجونَ من أهلِها بانبهار.
وصرخَتْ هي فضاعَ صوتُها وسْطَ ضجيجِ (السيرك).
*****
قالَ لها وهو يهرُبُ منها ببصرِه:
-    لا أريدُ أن أظلمَك.
-    إذن توقّفْ عن الكلام!
-    لا أريدُ أن أحرمَكِ من مُتعِ الحياة.
-    إنني زوجتُك.
-    ما زلنا على البرّ.
-    هل تريدُ أن تهرب؟
-    أريدُ أن أضحّي.
-    تضحّي بي؟!!
لمْ يُحرْ جوابًا، فواجهتْه قائلةً بحزم:
-    لا توجدُ قوّةٌ في الأرضِ تستطيعُ التفريقَ بينَنا.. إنّني زوجتُك، اخترتُكَ بنفسِ ظروفِك، ولم يتغيّرْ شيءٌ بالنسبةِ لي.
قالَ بمرارة:
-    مشوارُنا طويل.
-    لذّتُه في طولِه.
-    ولكنّه مُرهق.
-    هكذا الحياةُ دومًا.
صمتَ ووجهُه يعكسُ صراعًا داخليًّا عنيفًا، وهي ترمقُه بتهيّب.. قالَ أخيرًا:
-    دعيني أفكّر.
نظرَتْ له لحظةً في صمت، قبلَ أنْ تتركَ المكانَ في غضب.
*****
على خليجِ الأحـلامِ المـاسيِّ جثمَتِ الغيومُ، ثارَ الموجُ وقهقهَتِ العواصف.
وهما على الأفقِ، يلوحانِ شبحينِ متباعدين، يتطوّحانِ في رعشةِ الريح.
ولكنَّ شيئًا واحدًا كانَ جليًّا وسْطَ الظلام.
ما زالَ قلباهما مضيئين في صدريهما، وفي جوفِ كلٍّ منهما، يبدو ظلُّ الآخر، وهو يجلسُ مُطرقًا في حُزن.
*****
قالَ لها ببطْء:
-    لقد عرضَ عليَّ مئات الآلاف من الجنيهاتِ لكي أطلّقَك.
سألتْه بتهيّب:
-    وهل ستفعل؟
-    ماذا تتوقّعينَ أنتِ؟
سالتْ دموعُها في صمتٍ وهي تنظرُ إليه.. سألها مندهشًا:
-    لِمَ تبكينَ؟
-    هل تتوقّعُ منّي أن أرقصَ طربًا؟
-    هذا أقلُّ ما أتوقّعُه منكِ احتفاءً بـ.. بحبّي للفقر!
توقفتْ دموعُها، ونظرتْ إليه بأنفاسٍ خاشعة، فسألها بعتاب:
-    هل توقّعتِ أن أتخلّى عنكِ مقابلَ مالِ الدنيا كلِّه؟
سالتْ دموعُها، ولكنْ فرحًا هذه المرّة، وتمتمت:
-    كُنْتَ تتكلّمُ عن التضحية.
-    التضحيةِ وليسَ التجارة.. تصوّري أنَّ ذلكِ الأحمقُ قد حسمَ الصراعَ لغيرِ صالحه؟.. هل أنا مجنونٌ لأفرّطَ في كَنزٍ، يراه هو بعينِه الكليلة، يستحقُّ مئات الآلاف من الجنيهات؟
سألتْه بدلال:
-    وكم أساوي في نظرِكَ أنت؟
احتضنَ أناملَها وقال في وله:
-    بسمةٌ رقيقةٌ من ثَغرِكِ النادي، بالدنيا وما وَسِعَتْ.. ذلكِ الأحمقُ أرادَ أن يسلبُكِ منّي بخسًا.. ما فائدةُ أن أُقايضَ لوحةً عالميّةً نادرةً بقدرتي على الإبصار، أو أن أشتري تَمثالا خالدًا لي مُقابلَ مصرعي؟
وضحكَ قائلا:
-    وهكذا ترينَ أن حواءَ أخرى تسبّبتْ في طردِ آدمَ آخرَ من الجنّة.
-    آها.. ستبدأُ الندمَ من الآن؟
ابتسمَ ولم يُعقّب.
اكتفى بالنظرِ في عينيها.
*****
على خليجِ الأحـلامِ المـاسيِّ سـارا، اليدُ باليد، والعمرُ هو العمر، والحلمُ والذكرى.
لم تكنِ الدنيا قد طرحتْ مشاكلَها، فبدونِ هذه المشاكلِ لن تكونَ دنيا.
ولكنَّ كلَّ مشكلةٍ كانت تزيدُهما قوّةً، وإصرارًا، وتحدّيا.
وحُبّا.
*****
 محمد حمدي غانم ـ 9 / 11 / 2000



[1]  لو كانت فكرةُ النساءِ عن الرجال، تنحصرُ في الصورةِ الحيوانيّةِ الّتي تنقلها الأفلامُ والروايات، فقُل على الدنيا السلام!
[2]  بالنسبةِ لقدرِ اللهِ ـ وكلُّ شيءٍ قدرُه ـ لا يوجد ما يسمّى بالمصادفة.. أمّا بالنسبةِ لإدراكنا المحدودِ للدنيا، فإنَّ معظمَ ما (نصادفُه) في حياتِنا، هو من غيرِ تخطيطِنا، أو جاءَ على عكسِ تخطيطنا.. لهذا نسمّيه مصادفة.




هناك تعليقان (2):

  1. رائعة جداً..
    ولأبـــعد حد..
    بارك الله فيك..(أكثر ما أعجبني وأنا لست رجلاً سهل)

    ردحذف
  2. شكرا لتقديرك.. أسعدني أنها أعجبتك.
    كل عام وانت بخير
    تحياتي

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر