المتابعون للمدونة

الخميس، 7 أكتوبر 2010

عـود ثقـــاب

عـود ثقـــاب

كل شيء جاهز أيها الموت.. الآن أنا لك.
ربما لن أبدأ بالتعارف، ولكني سأمد كفي وأقول مرحبا..
قل معي مرحبا!
***
آخر أفكاري قبل أن أُنهي كلّ شيء.. أحبّ أن أترك ورائي هذه العبارة:
-  إنها مستنقع رهيب من الآلام والأحزان والشر وحثالة البشر وليست مجرد دنيا، وأنا لست عليها نادمة.
***
كل شيء غمرته بالجاز.
الباب والنوافذ: الكل مغلق.
الحجرة معزولة عن باقي الشقة.
الوقت: ليلا، وعمتي فاطمة تزور إحدى قريباتها في بلدة بعيدة.
الشقة في الدور الأخير، ولن ينتبه أحد إلا بعد أن ينتهي كلّ شيء.
والآن: عود الثقاب في يدي يحتاج لمجرد حكّة، ثم قذفة، لتجد النار متنفسا لها ترتع فيه.
***
لست خائفة من هذا المصير البشع، فهو أهون عندي بكثير مما أنا فيه.
الشيء الوحيد الذي يورثني إحساسا رهيبا بالذنب هو عمتي فاطمة.
يا إلهي.. آسفة يا عمتي، لن أستطيع أن أبقى معك أكثر من هذا.
سامحيني لأنني من الآن فصاعدا لن أُقضقضَ رأسك بأناتي وآهاتي ومصائبي.
معذرة أيضا أنْ أسببَ لك كلّ هذا الحزن من أجلي، وأُفقدك إحدى حُجرتَيْ جُحرِك الدافئ الذي ضمني عمري.
قبلوها لي كثيرا.
***
آه.. لماذا تسيل دموعي الآن في صمت وسخونة؟
لا لا.. لست نادمة ولن أفكّر أبدا في التراجع.
نعم سأقطع السبيل الآن.. أشعلت عود الثقاب.
***

قال لي أبي يوما وأنا في الرابعة من عمري، دون أن أعيَ كلماته أو أدرك أنّه يحتضر:
-  لا تحزني يوما يا ابنتي.. حتّى من أجلي.. لا شيء في الدنيا كلها يستدعي الحزن.. إنها مجرّد رواية كبيرة، فحاولي في كلّ وقت أن تكوني من مشاهديها.. فقط من مشاهديها.
آسفة يا أبتي.. لم أستطع ذلك.
لقد جذبتني الرواية في شدة، ووجدت نفسي ألعب دوري فيها.. حتّى النهاية!
***
قالت لي أمي يوما وأنا في السادسة من عمري، وأنا أحاول أن أعيَ كلماتها، والهلع ينهشني دمعا ورجفة وأنا أدرك أنّها تحتضر:
-  سامحيني يا ابنتي.. لن أستطيع إكمال مشواري معك.. أعرف أنني بهذا سأتركك وحيدة في الدنيا، ولكن صدقيني: ليس بيد أحدنا أن يحدد متى يبدأ ومتى يذهب.
كلا يا أماه.. اليومَ بالذاتِ قررتُ أن أحطم هذه المقولة.
اليوم سأذهب..
وبمشيئتي.
***
قالت لي أشباح الوَحدة والوَحشة والجوع والبرد والظلام يوما، وأنا ألتصق ببعضي فزعا في فراش بلله دمعي وضعضعه ارتجافي:
-  لا مكان في الدنيا إلا للوحوش.. من كان بلا أنياب تلقفته الأنياب.. ومن كان بلا عَضُد تناوله كلّ عضد.. أنت لنا يا صغيرتي.. أنت لنا.
نعم أنا لكم.. ولكنني تأخرت كثيرا.. معذرة!
***
قالت لي عمتي فاطمة ـ جارتي الطيبة التي تكفلتني يوما ـ وهي تضمني لصدرها في حنان:
-      آسفة يا بُنيّتي.. أعرف أنّ البرد قارس، ولكن ليس عندي ما يمنحك الدفء غير هذا الصدر العجوز.
أوّاه.. ابتهجي يا عمتي.. اليوم ستلتهمني كلّ هذه النيران.. وأعتقد أنها ستمنحني الدفء الكافي.
***
قال لي مدير المصلحة الحكومية يوما، وأنا أقدّم له أوراقي:
-  ألا ترين أنّه من الفداحة ألا تكملي تعليمك؟.. لا أعتقد أنّ الشهادة الثانوية تكفي، خاصة لفتاة يدل مجموع درجاتها على نبوغها!
يومها قلت في خضوع:
-      ماذا بيدي يا سيدي؟.. الدنيا تجبرني على هذا.
ولكن لا.. لن تعود تجبرني على شيء من الآن فصاعدا.
***
قال لي حسام ـ زميلي في المصلحة ـ يوما، وأنا في العشرين من عمري:
-  من لم يحزن لم يتعلم.. الإنسان يجيء إلى الدنيا باكيا وسط آلام المَخاض، ويغادرها مبكيا عليه في آلام الاحتضار.. إنها فضيلة أننا نحزن، على الأقلّ حتّى نعلم أنّ لنا قلوبا يمكنها أن تشعر بالحزن.
وانبهرت بكلماته بشدة.. وهأنذي الآن أتذكرها وأنا أسبح في الدموع.
هل تسعدك كلّ هذه الدموعِ يا حسام؟
***
قال لي حسام يوما وهو يبتسم في هُيام:
-      أتسمحين أن أقول لك إنني أحبك؟.. إنّك أروع إنسانة في هذه الدنيا بأسرها.
يومها ابتسمت مُطرقة في خجل ولم أعقّب..
يا لها من ذكرى التهمها الحزن الكئيب!
***
قال لي من قال يوما، ولسانه يجرّ الكلمات جرا ثقيلا، من مستنقع التردد والأسف والنظرات الزائغة:
-      حسام.. حسام صدمته.. سيارة مسرعة و....
وقاطعته يومها وأنا أصرخ في هلع.
***
اللعنة!.. لقد أعمت الدموع عينيّ.
بل.. بل إنني أيضا أرتجف من البكاء.
مضت شهور ظننت بعدها من فرط بكائي أنني لن أذرف دمعة واحدة.
لكن يبدو لي الآن وجه وهمي.
آه.. حبيبي حسام.. إنني آتية إليك.
لم أستطع أن أحيا بدونك لحظة وسط كلّ هذه الآلام..
كلماتك وحدها كانت مِنسأتي التي أتوكأ عليها فوق أرض تميد بالزلازل.
آه.. كم أتوق إلى عالم لا تزعجه الصرخات ولا تغرقه الدمعات ولا تحرقه الآهات و....
آآآآه
تبّا.. لقد سرقتني أفكاري، والتهمت النيران عود الثقاب ولسعت إصبعي و....
***
قال لي أبي يوما وأنا في الرابعة من عمري، دون أن أعيَ كلماته أو أدرك أنّه يحتضر:
-  ... إنها مجرّد رواية كبيرة، فحاولي في كلّ وقت أن تكوني من مشاهديها.. فقط من مشاهديها.. وثقي أنّ عذاب الدنيا مهما كان لا يساوي شيئا بالنسبة لعذاب الآخرة.
يا لهذه الرجفة التي تسري في جسدي!
***
قالت لي أمي يوما وأنا في السادسة من عمري، وأنا أحاول أن أعيَ كلماتها، والهلع ينهشني دمعا ورجفة وأنا أدرك أنّها تحتضر:
-  ... ليس بيد أحدنا أن يحدد متى يبدأ ومتى يذهب.. إنني آمل فحسب أن نلتقي في جنة المتقين يا بنيتي.
الجنّة يا أمي؟!
الجنة؟!
***
قالت لي عمتي فاطمة وهي تضمني لصدرها في حنان:
-  ... ليس عندي ما يمنحك الدفء غير هذا الصدر العجوز، ولكن دعينا نغمض أعيننا، ونحلم معا بجنة لا يرى فيها الصابرون شمسا ولا زمهريرا.. اصبري يا بنيتي.. اصبري.
ياه. كيف نسيت هذه الكلمة؟
***
ابتسم لي حسام يوما وقال في هُيام:
-  ... إنّك أروع إنسانة في هذه الدنيا بأسرها.. أتدرين أجمل ما فيك؟.. صبرك.. صمود الجبل الراسخ الذي تمرّ عليه الدنيا بكلّ غِيَرِها فلا يتغيّر.. أروع ما فيك قلبك الراسخ في إيمانه وعزمه.. أنت تخلبين لبّي بهذه الصفات الرائعة.. كم أذوب فيك عشقا!
أطرقت يومها أبتسم في خجل وسعادة.. ولكنني لم أفهم كلماته تلك إلا الآن..
الآن فقط.
***
قال لي حسام يوما، والدمع يخنقني والانتحاب يفتت أوصالي، وهو في فراشه بالمستشفى الذي نقل إليه بعد أن صدمته السيارة، وكانت آخر كلماته:
-  حبيبتي.. لا تبكي أرجوكِ.. أنت تعلمين كيف تمزقني عَبراتك.. أعرف أنّ القدر شاء لنا ألا نحقّق طموحاتنا في الدنيا، ولكني لست منه بغاضب.. إننا كلنا في الدنيا غيوم مثقلة بالمطر.. جئنا إليها كي تحركنا رياحها ـ كما يبدو لنا ـ عشوائيا في كلّ اتجاه.. نصدم بعضنا، تندلع بروقنا ورعودنا، ونمطر ما فينا لنُخرج كلّ ما هو أعماقنا تماما، ثم نتلاشى من الدنيا، ولكن أبدا لا نتلاشى من الوجود.
يا إلهي!
كأنني أفهم هذه الكلمات لأوّل مرة.
هل كنت حقا أستحقّك يا حسام؟
أيّ هول كدتُ أقدم عليه؟
من يلوذ من الرمضاء بنار جهنّم؟
سامحني يا إلهي.. سامحني.

(ولَعذابُ الآخِرةِ أكبرُ لو كانوا يعلمون)
الزمر – 26

****
محمد حمدي غانم
1996


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر