المتابعون للمدونة

الأحد، 15 أغسطس 2010

دائمًا أنتظر

دائمًا أنتظر

كانت وحيدة.. شقتُها ذاتُ الحجراتِ الثلاثِ تبدو لها كالعالمِ الشاسعِ الموحش.
وبالطبعِ كانت حزينة.
منذُ طفولتِها لم تعرفْ سوى الحزن، اليتم، الوَحدة.
*****
رنّ جرسُ الهاتف فالتقطتْ سمّاعتَه.
أيّامٌ تمرُّ دونَ أن تتذكّرَ أن لديها هاتفا!
-   مرحبا.
أجابَها صمتٌ مُطبق، فابتسمتْ بسخرية:
-   إذا كُنْتَ تشعرُ بالملل، فقد اخترتَ الشخصَ الخطأَ، فأنا المللُ ذاتُه!
ووضعَتِ السماعةَ لتعودَ لشرودِها الحزين.
*****
كانت هوايتُها الأثيرة، أن تقضيَ فترةَ المساءِ وحيدة، تتذكّرُ كلَّ ما يُتعسُها!
ولكنَّ معاكسَ الهاتفِ كانَ مُصرًّا على إفسادِ مثلِ هاتيكَ المتعةِ عليها، إذ واظبَ على الاتصالِ يوميًّا وفي نفسِ الموعد.. وبنفسِ الصمت!
ولمّا ضاقتْ به ذَرعًا قالتْ في ضجر:
-   حسنًا.. قُل من أنتَ وماذا تريدُ وسنرى ما يمكنُ فعلُه.
جاوبَها نفسُ الصمتِ فقالت بتعجب:
-   لا أرى معنى لصمتِكَ هذا.. هل هو ممتعٌ إلى هذا الحدّ؟.. فلأجرّبْ.
وصمتتْ مثلَه، فلم يَعدُ يُسمعُ سوى أنفاسِهما.
ولكنَّ دقيقةً مرّت دونَ أن يتغيّرَ شيء، فتنهّدت في يأس، ووضعتِ السماعة.
*****
لأسبوعينِ ظلَّ الحالُ على ذاتِ المنوال، حتّى باتتْ تتساءلُ عن كُنهِ ذلك المعاكسِ الغريب.
لقد بدأت تتكوّنُ لديها فكرةٌ، لم تستطعْ أن تتحاشاها للنهاية.
*****
لم يكدِ الهاتفُ يرنّ، حتّى اختطفتِ السماعةَ بلهفة.. وضعتْها على أذنِها وصمتتْ.
مضتْ فترةٌ من الصمتِ المتوتّرِ دونَ أن تسمعَ سوى حفيفِ أنفاسِه الخافت.
ازدردتْ لعابَها وتساءلتْ:
-   أ.. أهو أنت؟.. إنّني أعرفُ أنّه أنت.
ودقَّ قلبُها بتوتّرٍ متحفّز، ولكنَّ أحدًا لم يُجبْ.
قالتْ بخفوت:
-   إنّه أنتَ ولا شكّ.. لا أحدَ غيركَ اهتمَّ بي من قبل.
انتظرتْ لحظةً علّه يجيب، ولكنَّ شيئًا لم يتغيّر.. ربّما أحسّت أن أنفاسَه تسارعتْ بعضَ الشيء، ولكنَّ شيئًا آخرَ لم يتغيّر.. ما زالَ على نفسِ صمتِه.
انتابَها الشكَّ أن يكونَ هو، فتردّدتْ لحظة، ووضعَتِ السماعة.
*****
تغيّرتْ هوايتُها بعضَ الشيء: صارتْ تفكّرُ في ماهيّةِ معاكسِ الهاتفِ أكثرَ مما تفكّرُ في أحزانِها!
وكلّما ظنّتْ أنّه هو، خفقَ قلبُها.
لهذا حينما اتصلَ في اليومِ التالي قالت له على الفور:
-   لا داعيَ للمراوغة.. إنّه أنت!
-   ....
-   اصمتْ كما شئت.. لن يخدعني صمتُكَ هذا.
ورفّتْ على شفتيها بسمةٌ حزينة:
-  أتعرف؟.. أولُ ما جذبني إليكَ صمتُكَ هذا الّذي يشبهُ صمتي.. صمتُكَ المليءُ بالحزنِ الّذي يشبهُ حزني.. نظرتُكَ العميقةُ الحانية، الّتي جعلتْ قلبي رغمًا عنّي، يتملصَ من صدرِي، ويطيرُ ويحطُّ بينَ كفّيك.
-   ....
- أتعرفُ أيضًا؟.. نفسُ صمتِكَ هذا أكّدَ لي أنّكَ تُحبُّني.. لقد أتاحَ لي أن أسمعَ دقاتِ قلبِكَ وهي تناديني، فالتفتُّ لأرى صورتي في التماعةِ الحنانِ الّتي تغافلُ حزنَكَ وتغلّفُ عينيكَ وهما في عينيّ.. لم تكُن قطُّ ممن تخفي أعينُهم الزجاجيّةُ ما بداخلِهم.. عيناكَ ماستان تَمسّانِِ أعماقَك، بلّورتانِ سحريّتانِ تُنبئانِ عن أسرارِك.. لكم انبهرْتُ بهما!.. لكم أحببْتُهما!
كانت بسمةٌ سعيدةٌ ترفرفُ على شفتيها لأوّلِ مرةٍ منذ أمد، وكانت ظنّتْ أن شفتيها قد صدئتا عن الابتسام، وعلتْهما طبقاتٌ من المرارة.
ولكنْ يا خَسارة!.. لم يستمرَّ ذلكَ طويلا.. لقد وضعَ السماعةَ هو تلكَ المرّة.
وعادتْ دموعُها تنساب.
*****
حينما اتصلَ سألتْه بعتاب:
-   لماذا أغلقتَ الخطّ؟.. هل ما زلتَ غاضبًا منّي؟
-   ....
-   هوووه.. ليتَ الزمانَ يعودُ بنا للخلف.. للّحظةِ الّتي صارحْتَني فيها بحبّك.. للحظةِ الّتي وضعتَ فيها دُبلتَكَ في أصابعي.. للحظةِ الّتي رفعْتَ فيها طرحةَ الزفافِ عن وجهي.. للأيّامِ الجميلةِ الّتي عشناها معًا.. يا لها من ذكريات!.. أجملُ ذكريات.
-   ....
-   أتذكر؟.. أتذكرُ عندما صنعتُ لكَ الكعكةً إيّاها في عيدِ ميلادِك، ولم أكن صنعتُ مثلَها من قبل، فجاءتْ مختلّةَ المقادير؟.. لقد أصررْتَ على أن تأكلَ منها إكرامًا لي، رغمَ أنّي أنا نفسي لم أجسرْ على فعلِ ذلكَ!.. ها ها.. كانَ جزاؤكَ بالطبعِ مغصًا شنيعًا وقيئًا متتابعا.. ولكنكَ دومًا هكذا.. حنونٌ لدرجةِ إيذاءِ نفسِكِ من أجلِ ألا تجرحَ مشاعري.
-   ....
-   ها ها.. ولكنّكَ ماكرٌ لم تتركْ حقّك.. فوجئتُ بكَ في عيدِ ميلادي تصنعُ لي واحدةً (أفخرَ) منها، وتجبرُني على تذوّقِها!
وترقرقَ الدمعُ في عينيها:
-   كانت ألذَ كعكةٍ رديئةٍ أكلتُها في حياتي!
-   ....
-   أتذكرُ عندما...؟
لم تسطعِ المواصلة، فقد وضعَ السّمّاعة!
*****
أه.. هذا أنت.. لقد تأخرتَ نصفَ دقيقة.. كدتُ أظنُّ أنّكَ لن تتصلَ اليوم.
-   ....
أتدري؟.. إنني لا أشعرُ بالأمانِ إلا حينما أسمعُ صوتَك.. إنّه مصدرُ دفئي الوحيدُ في هذه الدنيا البارة.. ولكنْ.. إنّكَ ما زلتَ صامتًا.. فجأةً وجدتُكَ تتغيّرُ.. كنتَ لي نعمَ الزوجُ والأبُ والأخُ والابنُ والصديق.. كنتَ بلسمَ قلبي من جروحِ الحزنِ الّتي طالما مزقتْ نبضاتِه.. ولكنَّ الحزنَ غزا عينيكَ فجأة.. الصمتَ غزا غُنواتِكَ فجأة.. الشرودَ جذبَكَ بعيدًا عنّي.. حاولتُ أن أعرفَ ما ألمَّ بك.. أن أجذبَكَ إليَّ من دوّامةِ الحزنِ الّتي تبتلعُكَ إلى العدم.. لم أستطعْ.
وانسابتْ دموعُها بغزارة:
-   كنتَ تضيعُ من بينِ كفّي وأنا عاجزةٌ عن فعلِ أيِّ شيء.. حتّى...
ازدادُت دموعُها حرقة:
-   حتّى اختفيتَ فجأةً من حياتي.. أرسلْتَ لي ورقةَ الطلاقِ بغتةً فكدتُ أفقدُ عقلي.. بحثْتُ عنكَ في كلِّ مكان.. كنتُ أريدُ أن أُنشِبَ عينيَّ في عينيكَ، وكفيَّ في كفيكَ، ورُوحي في رُوحِكَ وأسألَك: "لماذا؟.. لماذا تتخلّى عنّي، وأنتَ آخرُ ما أملِك؟.. وأنتَ كلُّ ما أملِك؟.. أنتَ أنا؟.. لماذا؟".
-   ....
-   ولكنَكَ كنتَ تبخّرت.. استقلْتَ من عملِك، واختفيتَ دونَ أن يعلمَ أحدٌ مكانَك.
وقالت له برجاء:
-   أرجوك.. أخبرْني أينَ أنت.. أخبرْني برقمِ هاتفِكَ حتّى.. أرجوك.. أرجووووك.
وضعَ السمّاعةَ فانتحبَتْ هاتفةً:
-   لا تغلقِ الهاتفَ الآن.. أرجوك.. أرجووووك.
وانهارَتْ تبكي بمنتهى اللوعة.
*****
كانت أكثرَ تماسكًا حينما اتصلَ في اليومِ التالي.. بجمودٍ قالت:
-   لا أدري ماذا تريدُ منّي بالضبط.. أتريدُ إتعاسي؟.. أتظنُّ أن صمتَكَ هذا يُسعدُني؟.. صمتُكَ أخبرني أنّكَ لا تحبُّني، تمامًا كما أخبرني من قبلُ أنّكَ مُتيّمٌ بعشقي.. لقد عرفْتُ كلَّ شيء.. كنتُ أنقّبُ بينَ باقي أوراقِكَ بحثًا عن أيِّ شيءٍ يُرشدُني إليك.. ووجدْتُها.. ورقة.. مجرّدُ ورقة.. تذكرة طبيبٍ لا أعرفُه، ولكنّها كانت مِفتاحَ اللغزِ كلِّه.
وازدادُ هطولُ دموعها:
-   ذهبْتُ إليه على الفور وكلّي أملٌ في معرفةِ مكانِك.. وهناك...
وانتحبَتْ بحرقة:
-   وهناكَ عَرَفْتُ الحقيقةَ المروّعة.. إنّكَ مصابٌ بذلكَ الورمِ الخبيث، وأيّامُكَ في الدنيا لم تَكُن لتتجاوزَ العام.. مادتِ الأرضُ بي.. زأرتْ براكينُ ودمدمتْ زلازل.. لو كنتُ أنا مكانَك ـ ليتني كنتُ أنا مكانَك ـ لما أصابني مثلُ ذلكَ الهلع، وجثمَ مثلُ ذلكَ الحزنِ على قلبي.
واختنقُ صوتُها بينَ عَبَراتِها:
-   ولكنَّ أكثرَ ما آلمني هو موقفُكَ أنتَ.. لماذا أخفيتَ عنّي وأنا منكَ وأنتَ منّي؟.. لماذا حرمتني من عامٍ كاملٍ بصحبتِك، أخفّفُ عنكَ فيه آلامَك، وأنعمُ فيه بروحِكِ الملائكيّةِ الّتي لا يستطيعُ قهرَها ألفُ ألفِ مرض؟
وتشبّثتْ بسمّاعةِ الهاتفِ كأنّما تتشبّثُ به هو:
-   أرجوكَ عُد.. دائمًا ما انتظرتُكَ أن تعودَ ولن أملَّ الانتظار.. عُدْ إليَّ يا عمري.. عُدْ إليَّ أرجوك.
وكان جوابُه أن أغلقَ السمّاعةَ في صمت.
*****
كانت عيناها شاردتينِ وهي تمسكُ سمّاعةَ الهاتف.. قالتْ له بجمود:
-   اصمتْ كما يحلو لك.. ولكنَّ شيئًا لن ينزِعَكَ من وجداني.. إنّكَ حزني الّذي امتزجَ بروحي، رُوحي الّتي امتزجتْ بعذابي.
وكوّرَتْ يدَها بقوّةٍ على ورقةٍ صغيرة:
-   لم أكنْ في حاجةٍ لورقتِكَ الّتي أرسلتَها في يومِ الغيومِ والرعود: "أحببْتُكِ إلى الأبد".. لم أكنْ أجهلُه ولا نَسِيتُه.. لمْ أكُن أريدُ أن أقرأَه في ورقة.. أردْتُ أن أقرأَه في عينيكَ ولو للحظة.. ولو لآخرِ لحظة.. لم تكنْ عيناكَ مفتوحتينِ حينما رأيتُك.. كنتَ صامتًا ولكنْ ليسَ ككلِّ مرّة.. لمستُ كفّكَ فلم تكنْ بمثلِ دفئِها.. سالتْ دموعي فلم تمسحْها لي.. همسْتُ باسمِكَ فلمْ ينبتِ الزهرُ في شفتيّ، ولم يُشرقِ الفجرُ في عينيك.. ناديتُك فلم تجُبْني.. أخذتُكَ في ذراعيَّ فكنتَ بعيدًا عنّي.. فتشتُ عنّي في قلبِكَ فلم أجدْه ينبض.
وانفجرتْ تبكي بهستريا:
-   كنتَ ميّتًا.. كلُّ شيءٍ فيكَ إلا رُوحَك.. صرختُ.. أردتُ أن أمزقَ الدنيا كلَّها بصرخاتي.. أن أشقَّ في جدارِ الموتِ لحظةً واحدةً تجمعُني بك.. لماذا فعلتَ بي هذا؟.. لماذا حرمتني من أن أكونَ بجوارِكَ في بدايةِ رحلةِ الأبديّة؟.. لا يمكنُ أن تكونَ قد أحببْتني.. لقد قتلتني.. قتلتني ألفَ مرّة.
وصفقتِ السّماعةَ في عنف.
*****
كلما اتصلَ فيما بعد، لم تكن تلفِظْ حرفًا واحدًا.
كانت تُغلقُ عينيها، وتصمتُ وتشردُ بعيدًا، وتنتظر..
إلى الأبد.
*****
محمد حمدي غانم
 9 / 11 / 2000

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر